الدم والقربان مشاعر سحرية غامضة ومخيفة (د. مصطفى واعراب)

يثير الدم في النفس البشرية مشاعر غامضة، تتأرجح بين الخوف والتقديس، فسهولة انسيابه، حرارته لونه الاحمر القاني ورائحته المتميزة، جميعها خصائص تثير بعنف خيال الناس قليلي المعرفة, ان الدم هو طابو بالنسبة للمغاربة، اذ يحرمون تناوله في الأكل او شربه، ويحذرون ان يطأوا بقعة دم منتشرة على الارض, بل انهم يتجنبون مجرد الاقتراب من اماكن تواجد الدم لاعتقادهم في ان الجن يتردد عليها وبسبب كل ذلك وغيره يحظى الدم في اعقتادهم بخصائص سحرية تجعل منه احد العناصر المهمة في وصفات السحر سواء اكان دم بشر او حيوان.

فبالنسبة للسحر بالدم البشري يحفل التراث السحري بالكثير من الوصفات التي تستعمل في الغالب اما دم الشخص نفســه المســتفيد من العــملية السحرية وصفات سحر الحب (او دم المــوتى او دم الحبيب او الغريم) وسنكتفي من كل ذلك بنموذج واحد شــائع حــيكت حوله الكثير من المعــتقدات هو «دم المــغدور».
دم المغدور
يعتبر دم كل شخص فارق الحياة في حادث قتل عنيف دما سحريا يستعمل في وصــفات الحاق الاذى بالآخر. وتتهم العجائز في شكل خاص باقتناص فرص الارتباك الذي يحصل بعد وقوع حــوادث الســير المميتة لأخذ قليل من الدم المتناثر على الاسفلت في قطعة ثوب او في ذيول الجلباب.

وحسب افادات بعض المصادر الشفوية فإن هذا الدم السحري كفيل بإحداث اضطرابات صحية خطيرة للأطفال الرضع الذين لم تظهر اسنــانهم بعد كما يستعمل من قــبل المــرأة التي تريد الانتقام من زوجها حيث يؤدي بالرجل الى فقدانه لقواه العقلية حيث سمــعنا قولا يردده بائع اعــشاب ومستحضرات سحرية يــنادي على الزبــائن في جوار ضريح ولي قائلا «هنا دواء دم المغدور ديري ليــه دم المغــدور ياش تحمقيه وتــخليه يدور» وهو ما يعكس مدى اعتــقاد العــامة في القــدرات العجيبة لهذا الدم اما بالنسبة للــطفل الرضــيع فإن الامهات يحرصن على إبــقاء اطفــالهن الــرضع بعــيدا عن النــساء اللــواتي لا يثــقن في نــواياهــن, وحسب ما هو شــائع، فإن مجرد دخول شخص يحمل وســط ملابــسه «دم
المغدور».
والتقاط حاسة «الشم» لدى الرضيع الذي يكون حساسا خلال تلك السن المبكرة للأصوات والروائح، يكــون كافــيا لإصابة الرضيع باضــطرابات صحية قد ينجم عنها عدم التئام عظام جمجمته وتسمى هذه العــملية «الشم».
ولأن الشيء يحدث الاثر كما يحدث نقيضه بحسب الظروف فإن دما آخر تمنحه معتــقداتنا خصائص سحرية مباركة يبــطل المفــعول المــؤذي لدم المغدور، وهو دم اضحية العيد المعروفة في هذا الصدد نذكر:
عندما يبلغ الرضيع اربعين يوما تقص خصلة من شعر قفاه يضاف اليها قليل من الكبريت ودم اضحية العيد المجفف ثم تخفى في حجاب يعـلق في عـنق الطفل.
يؤخذ دم اضحية العيد مع الزعفران الحر والقرنفل والسـانوج وتمـزج هذه المـواد مـع الـزيت وحليب الأم ليدهن بها رأس الرضيع.
يمزج دم الاضحية مع مريوت فراسيون والروضة وزيت الزيتون ويدهن رأس الرضيع بهذا الخليط.
علاج بعض الأمراض
ولا يقتصر استعمال دم اضحية العيد على الوقاية من الآثار السحرية المؤذية لدم المغدور على الرضع، بل ان المجتمعات المسلمة في دول المغرب العربي تستعمل دم الضحية طريا لعلاج بعض الامراض العارضة التي تصيب الكبار ايضا, كما تقوم ربات البــيوت بأخذ كمية من ذلك الدم لتجفيفها والاحتفاظ بها قصد التبخر بها لطرد الجن كما يدق الدم المجفف ويخلط مع الحناء لعلاج بعض الامراض النسائية خصوصا منها تلك التي تصـيب الثدي.
والحقيقة ان دماء الحيوانات تستعمل على نطــاق واســع في اعمال السحر، الداجــنة منــها او المتوحشة, وتشــمل لائحــتها خليطا عجيبا من كل الكمــيات والاصــناف، ويمتد مــن دم البــقة الــى دم الثور.
قرابين الدم
يعني القربان في علم الاجتماع «كل ما يتقرب به الى القوى العلوية من ذبيحة وغيرها» وقد تكون هذه القـوى الهـا او غيرها من القــوى فوق الطبيعة الاخرى: جــن، اولياء، ارواح، الخ واذا كانت لكل قربان دلالته وقيمــته الرمزية فإن اكثر انواع القرابين قيمة هي الذبائح التي تراق دماؤها خلال طقوس دينــية او سحرية على مكان مقدس.
وتختلف طبــيعة القرابين باختلاف المــناسـبات والجهة التي تقدم اليــها والشائع في معتقداتنا ان الجن يفضل من القــرابين بشكل عام المواد الغــذائية مثل فول، حليب، كسكس باللــحم ومن دون ملــح، الــخ ومــن الذبائح التي تحظى بالأفــضلية لديه ذبائح الدجاج والماعز الاسود, وتقتضي طقــوس تقديمها ان ينحر طائر الدجاج الابيض او الاســود او الأحمر حسب المناطق والمناسبات والمقاصد في الاماكن التي يعتقد في تواجد الجــن بها خصوصا مجاري المياه العدمة ثم يترك دم الذبيحة يسيل وينــثر بعد ذلك ريشها وامعــاؤهــا كــي «يلــتهمــها الجن» مع منع القطط والكلاب من الــنيل من تلك الوليمة الغريبة.
وحسب بعض الإشارات التـاريخـية فإن بعـض الانهار المـغربية كانت تشـهد اراقة دماء الذبائح بهدف التقرب والتودد الى الجن الذي يعتقد السكان في وجودهم في مياهها كما كانوا يريقون دماء الطيور في المغــارات والآبـار وغيرها من الاماكن المعتقد في وجـوده فيها لكن القرابين المقدمة للأولياء المنتشرين بكثرة في المغرب تظل الاكـثر انتـشارا وعلانية.
وحسب الملاحظة، يمكن تصنيف هذه القرابين الى صنفين رئيسيين:
من جهة نجد القرابين العادية التي تتوافد مع الزوار بشكل يومي حسب اهمية ودرجة شهرة الولي وتتمثل في الشموع والاعطيات المالية التي تقدم لدفــين الضريح من خلال اقرب الناس اليه اي المشرفين على ضريحه ويستمد هذا النوع من القرابين ضرورته وفق الاعراف القائمة من كونه يعتبر وســيلة تواصـل تسمح بربط وشائج علاقة روحية بين المريد وصاحب «المقام» اذ لا تجوز في عرف العامة زيارة الاولياء بأياد فارغة فمن شأن ذلك ان يغضــب «الــولي الصالح» من زائــره وهـناك من جـهة ثانية قرابين الــدم التي تعتبر اكثر اهمية نظرا لقيمتها الاقتصادية والــرمزية واراقــة الدم والتــي تقــدم للأولياء بشــكل مناســباتي او سنوي.
محاولة فهم دلالاتها
ان ظاهرة تقديم الذبائح للأولياء قديمة جدا في المغرب, وتجد اصولها في الحفلات الزراعية التي يقيمها اجدادنا تتويجا للمواسم الفلاحية، حين كانت القبيلة تجتمع حول وليها، في احتفال سنوي يخرجها من اطار الروتين اليومي وتشكل المناسبة فرصة لنحر الاضاحي على شرف الولي الاب الروحي للقبيلة ومن لحومها تهيئ النسوة ولائم جماعية كانت تؤجج حس الانتماء الجماعي الى القبيلة الواحدة.

لقد كانت للقربان حينها وظائف اجتماعية وروحية لكن ضاعت الكـثير من ملامح تلك الحياة الجماعية الاولى واصبحت القرابين التي تنـحر اليـوم على اعتاب الاولياء فرديـة وبشكل عام يمكن التمييز بين اربعة انواع رئيسيسة من قرابين الدم التي تقدم للأولياء هـناك اولا القرابين التي تنحر من اجل التقرب الى ولي وهذه العادة الشائعة لا علاقة للمستوى التعليمي او الاجتماعي بانتـشارها، بدلـيل ان بعــضا من الاطر السامية في اسلاك السلطة الترابية اشتهروا باتيانها علانية فبمجرد تعيين عمال الاقاليم يهب بعضهم الى زيارة الاولياء الاكثر شهرة في اقاليمهم رجال البلاد، كما تسميهم العامة وذلك تحت اضواء الكاميرات او في زيارات خاصة يحملون اليهم هبات مالية وذبائح قيمة تليق بمقامهم المقدس كما تقــدم هـذه القرابين في فترات الموســم السنوي للولي او بغير مناسبة وهناك ثانيا القرابين التي يلتمس مقدموها من الولي ابعاد الشـر عنــهم التطهر من العكس، طلب الشفاء، صـرع الجـن، ثـم هـنـاك ثالـثا قرابين الـدم التي يطلب اصحابها من القوى المقدسة الخفية انجاح مشـروع او صفـقة نجــاح فـي الاعـمال، تيــسير زواج، الـخ.
واخيرا هناك القرابين المقـدمة استــيفاء لنـذر ســبق للمعني ان قطـعه على نفسه ففي حالات معينة يقطع الـزائر او الــزائرة على نفـســه عهـدا بأن يحــمل الى الــولي ذبيحة في حال ما تحقق مراده, وحين يقضي الغرض يصبح على كــاهل صاحب النــذر دين ينبغي عليه ان يستوفيه والا انقطعت عنه بركة الولي.
ان المطلوب من الولي في هذه الحالات كلها وفي المقابل قربان الــدم المقدم اليه هو بركته البركة التي يمنحها لمقدم القربان كي تطرد الــشر المــسلط عليه من الآخــر والبــركة التي توفر الحماية من العين والبركة التي تيسر سبيل النجاح وتقضي الاغراض كلــها وتضــمن استمراريتها.
الاتصال
ولكن كيف يحصل الاتصال مع القوى العلوية من خلال قربان الدم، من وجــهة نظر المــعتـقد الشعبي؟
- يرى ادموند دوتيه وهو ابرز الدارسين للظواهر السحرية في المجتمعات المغاربية انه لكي يكون القربان مكتملاً اي مستوفيا لشروط القبول يكفي المضحي وهو ينحر الاضحية ان يدعو التـأثير الخلاصي للقوى فوق الطبــيعة كي يحل التأثير في لحم الاضحية التي سيتناولها فيما بــعد، مع الاكــل ويضيف دوتيه ان ذلك يحصل عندما يتم نحر القربان في جوار الولي ان سيلان الــدم علي الاعتاب المقدسة للولي هو شرط واجب لطرد التأثيرات الشريرة من المضحي بواسطة الذبيحة ويستنتج ادموند دوتيه انه لكي يتم طــرد الشــر بشــكل فعــال من طرف صاحب القربان ولكي توضع الاضحية في اتصال جيد مع العلوي ينبغي ان يســيل الدم بغزارة.
وقد كانت تقــام حول بعض الاضـرحة الشــهيرة في المغـرب، مـجـازر حقــيقـية للحيوانات خلال فترات المواسم السنوية وكانــت الاســرة ترعى قــربــان الــولي طــيلة اشــهر او طــيلة الســنة حتى اذا حــل المــوعد السنوي المنتظر لإقامة الموسم حملته الى وليها لتسيل دماءه على جنباته المقدسة.
وفي دراسة قديمة كتبها الباحث الفرنسي لاوست اشارة عابرة حول غزارة الدم الذي كان يفيض على جنبات احد الاضرحة الشهيرة في المغرب اذ ـ حسب لاوست ـ خلال الموسم السنوي لمولاي ابراهيم 80 كيــلو متــراً عن مراكــش الذي يقام بعد عيد المولد النبوي بأيام كانت تقام مجزرة حقيقية للديكة البيضاء الدجاج البلدي طبعا الى درجة ان دماءها كانت تسيل غــزيرة في غــدران على عــتبة «الزاوية».
قربان النار
بالنسبة الى عالمي الاجتماع الفرنسيين اوبي وموس فإن القربان هو وسيلة للدخول في اتصال مع الالوهية من خلال كائن حي يتــم تدمــيره خلال الحفل ويكون هذا التدمير اما بالـذبح كما رأيــنا كما قد يكون بالحرق حــيث عرفت الحضارات البشرية منذ القدم عادات تقديم القرابين البشرية والحــيوانية لكننا لم نعثر على ما يفيــد بوجود ظــاهرة تقديم القرابين البشرية في المغــرب، خلال اي عصر بيــنما كانت قــرابين النار من الحيوانات شائعة على نحو علني وجماعي خلال بعض المناســبات ولا نعــلم ان كانت تمارس حتى اللحظة الراهنة في بعض المناطق ولعلنا نجد في الطقوس السحرية التي تتضمن التبخر ببعض الحيوانات الصغيرة بعد رمــيها حية في لهيب المجامر كالحرابي جمع حرباء والعقارب وغيرها والتي مازالت تمارس على نطاق واسع اشكالا متأخرة لكن فردية وخفية لقرابين النار التي كانت في السابق جماعية وعلنية ثم انقرضت من مجتمعنا.
لقد ارتبطت قرابين النار في بلادنا ببعض المناسبات التي يتم خلالها اشعال نيران المباهج مثل العنصرة ومن امثلة قرابين النار التي ذكرها لاوست عند قبائل جبالة في الشمال الغربي كانت ترمي جثــة قط متوحش في الغــابة اما قبائل بني كيلد بالمغرب الشرقي فكان افرادها الرحل يحرقون دجــاجة بيضاء خلال نفس المناسبة ويقول وستر مارك انهم كانوا يحرقون ديكا ابيض في خيامهم وان ذلك الــطقس كان هو كل احتفالهم بالمناسبة الدينية اما في مدينة سلا فإن النــاس كــانوا يحرقون طائر البوم في النار بينما في تزروالت في سوس جنوب المغرب كانوا يرمون للنيران بعض الاسماك.
وفي تفسير هذه العادات الغريبة لم يكتب الشيء الكثير لكن حسب وستر مارك دائما فإن الدخان المنبعث من جــثث الحيوانات يطهر في اعتقاد الناس ـ من التأثيرات الشريرة وينقل البركة ولــذلك كانوا يعتبرون قرابــين النــار مفــيدة للزراعة ولقطعان اغنامهم اما عالم الاجتــماع الفــنلندي منهاردت فيستنتج من دراسته للــظاهرة ان لذلك الدخان خصائص سحرية.
ولعل من اغرب قرابين النار التي عرفها المغاربة قربان الحلزون الذي كانت تقــدمه بعــض قبــائل الاطلس الكبير لنيرانها فحسب لاوست دائما كانت قبائل آيت ايسافن تبدأ احتفالاتها بالمناســبة الدينية بذبــح بقرة على عتبة المسجد ويحمل دمــها ليراق في المكــان المخصص لنصب الموقد المقدس او الشعالة وفي اليوم التالي تذهب الفتــيات لجمع الحطب اللازم في الغابة بينــما ينصــرف الفــتيان من جهــتهم لالــتقاط الحلزون الذي سيحتفظون به الى غاية اليوم الاخــير من احتفالاتهم.
وعنــدما تخــبو النيران في اللــيلة الاخيــرة وتوشــك ان تنطفئ يتقدم فتــيان القبــيلة نحوها ليــرمي فيــها كــل واحد منهم حفــنة من الحلزون وهم يرددون باللهــجة المحـلية «مـونات دلباس نون» اي انهم يحــملون الحــلزون كل شرور سنتهم المقبلة ليدمروها في النار ويتخلصوا منها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق