الجماعات المنظرة.. (الغنوصية وعقلية أتباعها )

تعتبر الغنوصية من الديانات التي إرتبط بها الكثير من الجدل وتضاربت الدراسات بشأنها, فلا أحد يستطيع أن يحدد مكان نشأتها بالتحديد ولا ماهية المعتقد الذي يظهر من الخارج كخليط بين دين سماوي ودين وثني وأحيانا يظهر على أنه فلسفة دينية أساسها مهرطقون أذكياء.ويعتقد العديد من الباحثين أن ظهورها كان في مصر وأنتشر بعد ذلك في فلسطين وسوريا, وهناك من يرجح أنها ظهرت بعد رفع المسيح عليه السلام ممن آمنوا بالمسيح من الطائفة اليهودية.

لكن المنطق يقول أن هذا النوع من الطوائف لا يظهر بإتفاق جماعي إنما بمبشر يحمل فكرة ما للدين ويجمع من حوله أتباعه. وأرجح أن فلسفة الفكرة قامت على ثنائية الخير والشر, فتصورت الجماعة المؤسسة أنها ستمثل الخير الذي يحارب و ينتصر على الشر, وذلك من خلال صقل النفس أولا وإيجاد توازن داخلي للنفس حتى يعود بالنفع على المجتمع, لكن هذا العنوان الذي يطفو على السطح كان يخفي بداخله أفكار أخرى !!

---------------------
إبراكساس والميثرا
حسب الاكتشافات لعدد من المخطوطات بمنطقة نجى حمدي في مصر يرجع تاريخها إلى ما بعد ظهور المسيحية, كان من أغرب شخصياتها (أبراكساس) هو شعار يمثل جسم إنسان مرتد زي عسكري حامل في يده اليمنى فأس المعارك وكأنه يهدد عدو, أما في اليد اليسرى فيحمل درعا بيضوي منقوشا عليه كلمات القوة (أيو) وكلمة السبت, (وفي إعتقادي أن كلمة (أيو) تمثل إسم تلك القوة الخفية التي تتجسد في يوم السبت كيوم مقدس لها), أما رأس تلك الشخصية المخيفة فكان على هيئة طير فاتح لمنقاريه, أما الساقين فتظهر على شكل أفعيين ملتفتين وتحتهما يوجد رسم لصاعقة (وقد اشارنا في مقال سابق كيف أن زيوس كبير الالهة اليونانية كان شعاره الصاعقة).
وتعتمد الجمعية على تمثيل شخصياتها بالارقام, فعلى سبيل المثال يرمز لشخصية إبراكساس بالرقم 365 , وقد تكون جمعا لعدد أيام السنة في عبادة الشمس, أو عدد غرف قصور التبابعة اليمنين. أما في عبادة الميثرا فيشكل هذا العدد الرمز الباطني للميثرا 365. (وقد أشارنا في مقال أمس كيف أستقت المسيحية طقوسها الكنائسية من طقوس الإحتفالية لمعابد ديانة الميثرا).
ولكن يبقى السؤال.. إذا كانت الغنوصية في أصلها طريقة خاصة بتنشئة الكهان ذاخل الشعوب الوثنية, فلما عادت للظهور بعد ظهور الديانات السماوية في شكلها الغنوصي؟

-----------------------
عقلية أتباع الغنوصية
من الجانب النفسي لعبت رغبة تلك المجموعة في تحقيق التميز عن الاخرين, وإقناع أنفسهم قبل الاخرين أنهم يمتلكون معرفة تفوق المتعارف عليه وتلبي رغباتهم في إحساسهم بالقوة (عبر إعتقادهم بإمتلاكهم لقوى مافوق الطبيعة ليست بمتناول كل الناس بل لقلة مختارة), في إرضاء مشاعر العظمة لديهم.
أما من الجانب العقائدي,يمكن أن تفسر تعاليم الغنوصية ما كانت تمثله الرموز العقائدية لدى المجتمعات من خلال المقاربات التي قام بها أتباعها بين الديانة السماوية والوثنية, فمهما حاول مبشروا الديانة السماوية محو كل أثر ظاهر للطقوس الوثنية السابقة, إلا أنهم أبدا لم يستطعوا محو معانيها الرمزية لدى تلك الشعوب لأنها تجدرت في ممارساتهم اليومية وحتى في أعمالهم الحرفية, فبمجرد أن يبحث على إحيائها أحدهم حتى تطفو للسطح من جديد, لأنها مرتبطة أساسا بالخوف الجماعي لدى المجتمعات..
وقد وجدت من خلال بحثي, أثارا واضحة للغنوصية في الجبال المحيطة بصنعاء وبالتحديد في فج عطان وجبل النهدين والجبال المجاورة لها وجبل نقم, وعلى مشارف حوافي القلاع القديمة المشيدة على قمم الجبال في كل من سنحان وخولان وأنس, وهذه الآثار لا تثير الانتباه في بادئ الأمر, لأن الزمن لعب بمعالمها لكن بالتدقيق تتكون أمامك صورة عن شكل الشيء الذي نحث مند آلاف السنين على حافة تلك الجبال, حيث تظهر بوضوح رأس لأعفى في شكل منصة وأحيانا في كل جهة يظهر نحث لرأس أفعى ضخم وفوقها يوجد نحث ضخم لرأس طائر في شكل نسر فاتح لمنقاريه, وأحيانا تجد النسر فوق حجر يمثل ثلاثة وجوه..
مما يدل على أن الغنوصية مجرد إحياء لمنظومة وثنية قديمة, كانت لها بالتأكيد أرضية مسبقة من الأساطير التي شكلت جزءا من ثقافاتهم الموروثة, والتي بالتالي أستقت منها رموزها الخاصة..
المعتقد الغنوصي لايزال موجودا في مجتمعاتنا, بل وأتخذ له أشكالا أخرى !! فمن خلال دراستي لحالات اصطدمت بها بالصدفة, تمكنت من رؤية شكل المعتقد من الداخل, وفسر لي توجه الباحثين لرؤيته في شكل خليط بين الديانات السماوية والوثنية مما يعطي انطباعا أنه مجرد هرطقة.فبالرجوع لأسلوب التدريب والتجهيز النفسي لكهنة طيبة, وكذلك أتباع الميثرا الذي كان يعد حصريا للنخبة, نجد تقارب كبير بين مفاهيم الغنوصية, و مراحل التنشئة التي يمر بها الكهنة المختارين من الفرعون لإعدادهم وبين عقلية تلك الحالات التي عرضتها للدراسة. مما يجعل فرضية أن الغنوصية كانت في الأصل علما يخص الكهنة أو كما يسمى بالسادن لدى عرب الجاهلية, الأقرب إلى تفسير ماهية الغنوصية.
-----------------
المعتقد الغنوصي
وحسب ما يدعيه الغنوصين فإن بإستطاعة الإنسان أن يصل إلى أعلى درجات القوة عن طريق تطوير آفاقه الذهنية, إذ يتعين عليه الصراع والكفاح لأجل الوصول إلى المعرفة الغنوصية, وحسب فلسفتهم للمعرفة فإنها معرفة ذات طبيعة صوفية وليست مجرد مجموعة من الحقائق, مما يجعلها في الواقع مجرد وجهات نظر يغلب عليها الغرور وتضخيم حجم تلك المعرفة التي يتوهم العضو الغنوصي أنه يمتلكها, لأنها في الأساس لا تخرج عن ما يتعارف عليه في علوم السحر والتنبئ والسيطرة على الاخرين عبر معرفة فنتازية يتوهم العضو أنها من أسرار ما فوق الطبيعة, والتي يكون مصدرها تلك القوى الخفية التي يستسلم لها على أنها المصدر الوحيد للحكمة والمعرفة والقوة, ويصل إلى درجة من القناعة تجعله يرفض أي تفسير منطقي لأي حقيقة علمية أو دينية فكل الأمور المتشابهة في أي مجال لديها ربط بشكل ما لديه بتلك القوة أو بقوة مماثلة لها.فأبرز تعاليمهم تقول بأن هناك قوة خارقة غير منظورة يمكن للإنسان الاتصال بها والسيطرة من خلالها على نفسه وتحديد مصيره, واعتقدوا بأن العديد من الرموز الدينية عبر التاريخ تمكنوا من الاتصال بتلك القوة.
قد تختلف تلك التعاليم من جمعية غنوصية لأخرى, إلا إن العامل الثابت يبقى في هدف تلك التعاليم, وهو الوصول إلى الشيء الذي يحتاجه الشخص في لاوعيه.. فحسب اعتقادهم, أنه بداخل كل شخص هناك رغبة غير ملباة, وأن المعرفة الغنوصية هي وسيلته لتحقيق تلك الرغبة, وأيضا تحدد مصيره للوصول إليها مهما كانت تلك الرغبة.
وقد منح الإنسان تلك الأحاسيس لأجل البحث عن الطرق التي تمكنه من تحقيقها, فسعيه إلى الوصول لقلب حبيبه, ونجاح تجارته أو ارتقاءه إلى أعلى منصب في وظيفته وحتى أن يكون في مرتبة من السمو الروحي والقداسة في شؤونه الدينية, غالبا ما تبوء بالفشل مع نوعية من الناس يكون طموحها عاليا فتحصرها في أحلام اليقظة أو في حسدها للآخرين, ففي أحيان كثيرة تكون تلك النوعية من الناس تفتقد إلى المؤهلات الذاتية للاجتهاد والمثابرة للوصول إلى أهدافها.
وقد تضمنت الغنوصية أسرارا خفية لخضوع الشخص لطقوس معينة تضمن قبوله في الطائفة, وهي نفسها الأسرار التي تمكن الشخص المتقدم في الطائفة من الاتصال بالأعضاء المستهدفين أو من أختارهم كأتباع.
------------------------
القوى الخفية والتعميد
وترتكز الغنوصية في تعميد أشخاصها على صراعه الداخلي ومشاعره للوصول إلى القوة التي تمكنه من الشيء الذي يريده, من خلال تركيزها على أشخاص لديهم مؤهلات معينة تمكنها من صقل نفوسهم, فلا تختار شخصيات تتسم بالواقعية أو ممن شهدوا تجارب قاسية تخطوها بنجاح, بل ترتكز على أناس عديمي التجربة أو أشخاص لا يستطيعون إيستعاب تجاربهم والاعتراف بأخطائهم, بل تجدهم طوال الوقت يحاولون التظاهر بالكمال والفرار من أي محاسبة إما لحساسيتهم الشديدة أو لرغبتهم إقناع الآخرين أنهم دائما على حق بسبب مشاعر الحسد والأنانية التي تسيطر على تصرفاتهم.
كما تركز الغنوصية على دقة اختيار المعلم للطريقة المناسبة لأتباعه, فهناك من يرى في الجنون المؤقت والإثارة وسيلة لتحرر العقل من تعقيدات الجسد, فيما يجد معلمون آخرون في الصوم والتأمل وسيلة بسيطة وناجحة لتحرير العقل, مع أن الجمعيات التي أنبتقت عن الغنوصية, وجدت في تمرير الشخص بشتى الوسائل تؤدي النتيجة نفسها مع أشخاص في مجموعة مختلفي الأمزجة.
ورغم أن البداية مع كل الأعضاء تكون واحدة من الجانب النفسي حيث يعتقدون بقناعة شديدة أنهم من نخبة مختارة شاء القدر أن يكونوا بعد فترة من الزمن شخصيات مهمة أو أن يمروا بتجربة مصيرية يرتبط بها مصير الأمة بأسرها, وعليه يمكن بعد المرور باختبارات معينة, الحصول على أسرار الحكمة التي تمكنه من الوصول إلى ذلك القدر, إلا أنهم يخرجون من تلك التجربة نوعين من الأعضاء الغنوصية :
أعضاء نصف مجانين ينتهي بهم الأمر إلى المكوث في سجن التجربة ورفض أي واقع آخر معتقدين أنهم وصلوا إلى مرحلة من التجلي الديني واستطاعوا صقل شخصياتهم وأذهانهم بالحكمة المستنيرة..
ونوع آخر يصبحون عبيدا لتلك القوى فلا يمكنهم تحديد أي خطوة في حياتهم دون مباركة تلك القوى كما تنموا لديهم الرغبة في امتلاك كل ما يريدون مستندين ليس على الثقة بأنفسهم وإنما بقدرة تلك القوى في تحقيقها لهم, وأغلبهم ينتهي بهم الأمر إلى التحول إلى أشخاص فارغين من المشاعر والمبادئ ويختلف مفهوم الأخلاق لديهم, فالمهم بالنسبة إليهم الوصول إلى ما يريدون بأي ثمن, مما يصل بغالبيتهم إلى الجنون الكلي عندما لا يصلون في نهاية إلى ما تعودوا الحصول عليه بسهولة فيعتقدون أن تلك القوى أوقفت مباركتها وعونها لهم, فينتهي بهم الأمر إلى فعل أي شيء في محاولة للحفاظ عليها, حتى وإن كان ارتكابهم لجرائم !!
ورغم أن الغنوصية كانت عند نشأتها تحافظ على سرية تعاليمها وطرق تعميدها باعتبارها شكل لتجربة دينية متميزة كما اعتقد أعضائها, إلا أن الظهور لجمعيات اعتمدت على تعاليمها لتشكيل أتباع مخلصين بهدف الوصول إلى السلطة أو تسخير نفسها لمصالح جماعة معينة, جعل تعاليمها بمتناول الجميع, وذلك بتتبع طرق التجنيد وتحليل طريقة تفكير أولئك المجندين.
فمن خلال الحالات التي حاولت الاقتراب منها لدراستها, لاحظت أن مجملهم كانوا من المدمنين على اللجوء إلى المنجمين لقراءة الطالع, أو ممن أدمنوا على تحضير الأرواح الخفية حسب زعمهم (تلك الأرواح ما هي إلا قرين جن الشخص المطلوب !!) لطرح أسئلة مباشرة عن ما يخصهم وما يخص غيرهم.
الحالة الاولى استغربت فيهم أنهم دائما يلفظون نفس الإجابة عندما يتم تحذيرهم من خطورة تلبس تلك القوى بهم, فيقولون ( هم في الاصل جاءوا بإذن الله لإنقاذنا من سيطرة روح شريرة أرادت أذيتنا, هم فقط من الجن المؤمن الذين سارعوا لنجدتنا ونشأت بيننا صداقة).. وعندما يتم سؤالهم إذا كانوا على صلة بهم, يجيب أحدهم بأنهم أعطوه آيات معينة من القرآن عند قرآتها يحظرون لتلبية طلباته, ويتم سؤاله حتى عن العلوم والسياسة والدين, ومستقبلهم!!
والشيء الذي صعقني هو المستوى الثقافي والتعليمي العالي لأولئك الأشخاص, فلم أستطع استيعاب كيف اقتنعوا بتلك الخزعبلات على أنها حقائق حصرية لا يستطيع أفقي استيعابها !!
الحالة الثانية كانت لآخرين كادوا يقعون في نفس الفخ, أكدوا لي حسب تجربتهم أن تلك القوى الخفية تستحوذ عليهم تدريجيا من خلال ملازمتها لهم طوال الوقت, فيتم سماع أصواتها بعد ذلك بالإيحاء العقلي وبعدها يسمعونها في أذانهم مباشرة, وأحيانا يحسون بنفخ لريح ساخنة على الرقبة أو الوجه جهة اليسار, إلا أن الشيء الذي يجمع تلك المجموعة هو رغبتهم الغير مسيطر عليها بعد ذلك في ممارسة الجنس, مع أي كان وكيفما كان.
فتجد معظم أحاديثهم عن الجنس وعن مقدرتهم الجنسية الغير معتادة, فيهيأ لك وأنت تحادثهم أنهم في حالة فصام للشخصية, بين عدم الثقة بالنفس أمام أي أحد يحاول أن يصحح معلوماتهم وتصرفاتهم اللامنطقية, وبين أشخاص لديهم بوادر جنون العظمة ويعتقدون أنهم أكثر الناس جاذبية وإبهار والقدر قد أختارهم لمصير غير اعتيادي!!
أما الحالة الثالثة.. فقالت أن تلك القوى تحظر في هيئة قط ويتكلم معها كما يتكلم البشر!! وحين أستدرك أحدهم بأن هذا عمل شيطاني, أجابت بالنفي وبقناعة تامة أن ذلك القط هو جن مؤمن بالله, وجاء ليبشرها بأنها ستكون ذات شأن في سنوات المقبلة وستنتقل من اليمن إلى بلد آخر حيث ستصل إلى مرتبة النبوة, وأنه أمرها بالنظافة المستمرة وملزمات الطيب والعطور في كل مكان تكون فيه حتى تجالسها الملائكة, ويأمرها دائما بالتدين وصقل النفس لكي تتهيأ لقدرها المنتظر. مع أن ما فهمته من حديث من يعرفونها أنها كانت تمارس الدعارة في السابق ومدمنة على الشعوذة!!
وهنا يمر المرشح بأكثر من تجربة باتصاله مع تلك القوى الخفية, فتكون النتيجة في معظم الأحيان بعدم رضى تلك القوى عن تصرفه, لكنها تمكنه من فرصة أخرى يكون فيها قدره مختلفا!! وبالطبع يكون الشخص جاهزا لتغير مصاره كما شاءت تلك القوى لسببين,أولهما أن فشله في امتحانه السابق خلق عنده نوع من الرفض للشيء الذي فشل فيه مع وجود شاهد خفي يعتقد أنه يعلم ما يفكر فيه وما يريد إخفاءه, باعتباره مرافقه الدائم باختياره في الحالات الأولى والثانية.. أو وسيلة اتصال بينه وبين الذات الإلهية كما يتوهم في حالة الثالثة, فلا يستطيع تبرير فشله كما كان يفعل سابقا إنما يفرح بالمصير الجديد الذي نبأته به تلك القوى الخفية والتي وعدته بمساعدته في تحقيقه!!

0 التعليقات:

إرسال تعليق