محكمة الجان الكبرى (د. مصطفى واعراب)

لو سألت احدا بالصدفة اليوم، في اي مكان بالمغرب عن معرفته للولي «بو ياعمر» فانه سيجيبك على الفور بان ضريحه متخصص في علاج الحمقى والمصروعين بالجان، وحتى ان استحال على من تسأله تحديد موقع ضريح الولي الشهير على خارقة البلد، فانه سوف يتحدث لك عنه وعن كراماته الباهرة بالكثير من الاعجاب.

فمن هو «بو ياعمر» هذا، الذي تمنحه الاساطير المحلية مطلق السلطات على عوالم الجان والارواح؟ وما هي طقوس العلاج التي يتداولها احفاده جيلا في اثر جيل؟ وما سر «المحكمة الكبرى للجن» التي تنعقد في ضريحه للفصل في منازعات الانس مع الجان؟
موقع المقام
«بو ياعمر» هو عمر بن عبد العزيز بن رحال الكوش, اشهر اولياء المغرب على الاطلاق، اذ يناهز عدد زوار ضريحه المليون زائر سنويا.
يقع ضريحه على بعد 30 كيلو مترا من مدينة قلعة السراغنة (وسط المغرب)، وعلى مسافة ثلاثة كيلو مترات من مركز العطاوية، عبر مسلك طيني تذرعه بلا كلل وعلى مدار ساعات اليوم عربات مجرورة بالدواب.
ويقع الضريح على ضفة نهر تساوت، وهو قبلة للعلاج شهيرة داخل وخارج المغرب، وايضا رحم خصبة لتناسل الاساطير.
وفي كل ليلة، عندما يسود الظلام وتستوطن الوحشة ارجاء منطقة تساوت، وبعد ان يفرغ المؤمنون من صلاة العشاء وتستسلم اجساد المرضى واهلهم للراحة او للنوم، تنبع وسط النهر عين ماء عجيبة ماؤها ليس كالماء، فبياضه الشديد يجعله اشبه ما يكون بالحليب يجري وسط النهر متميزا مثل شريط ابيض طويل, وطوبى لمن يشرب او يلمس جلده، تبشر الاسطورة.
يقول البعض انها تنبع من اعماق النهر كل ليلة بعد صلاة العشاء، ويزعم اخرون ان جريانها يقتصر على الليالي الاربع للموسم السنوي الكبير الذي يلتئم من حوالي الضريح، خلال الايام الاربعة التي تسبق عيد المولد النبوي.
وفي كل الاحوال تتفق الاساطير على ان لذلك الماء المبارك خصائص فريدة تمنح لكل من يشرب منه بعض الجرعات، قدرات ذهنية تسير له سبل النباهة والذكاء او العلاج الشافي المعافي ان كان مريضا.

ولكي يحصل الراغبون على تلك الجرعات الثمينة منه، يرتمي في النهر كل ليلة، خفية عن الانظار، بعض الزوار والمرضى و«الطلبة» (الفقهاء الذين يكتبون التمائم والحروز) واخرون ,,, ويبدأون في سكون الليل تسابقا غامضا وصامتا ينال في اعقابه الاوفر حظا منهم ما يروون به ظمأ الحاجة الى التميز او العلاج بينما يكتفي الاقل حظا منهم بلمس السائل الابيض الهارب، قبل ان يتحلل ويختلط بماء النهر المقدس.
حسب تقديرات الباحثة المغربية خديجة نعموني التي انجزت اطروحة دكتوراه في الانثربولوجيا الاجتماعية حول «بو يا عمر» فان هذا الولي قد يكون ولد خلال العقدين الاخيرين من القرن 16 عشر الميلادي ولكن الغريب انه على شهرته الذائعة الصيت، لا تذكر الاساطير المحلية اي تفاصيل عن طفولته وشبابه، وكل ما يتداول عنه يهم فقط مساره التعليمي وتصوفه بشكل موغل في الاسطورة.
فقد بقي «بو ياعمر» اميا الى حدود سن الاربعين ثم شد الرحال الى زاوية تامكروت الناصرية على ضفاف نهر درعة (جنوب المغرب) وهناك تتلمذ على يد مؤسسها سيدي محمد بن ابراهيم الانصاري وراكم من الكرامات ما جعل شيخه يورثه «دربالته» (اي لباسه الزاهد المرقع) المحملة ببركته، وبفضلها تمضي الاسطورة قائلة، حول بويا عمر رمل الصحاري الى حبات قمح، واظهر في طلب العلم نبوغا غير مسبوق، بحيث استوعب من علوم الباطن والظاهر واصول الدين، خلال شهر واحد ما يكتسبه غيره من طلاب العلم بالزاوية الناصرية في اربعين عاما من الكد والجد.
وبعد وفاة سيدي محمد بن ابراهيم، تولى من بعده خلفه سيدي امحمد بن ناصر امور الزاوية، ومنها مهمة تدريس بوياعمر، فانبهر الشيخ الجديد مثل والده المتوفى بتفوق «الطالب» القادم من ضفاف تساوت على باقي زملائه البالغ عددهم 1400 فمنحه «اجازة» تخول له ان يقيم زاوية يعلم فيها القران للجن والانس، وخلال توديعه لتلميذه النابغة، سلمه سيدي امحمد بن ناصر مرآة هندية «مراية هندية» لها من خصائص السحرية ما يتيح لها علاج مرض التهاب السحايا الشوكية المعروف محليا تحت اسم «اللقوة» ضمن امراض اخرى كثيرة.
وفور عودته من زاوية تامكروت انشأ بوياعمر «محضرة» اي حلقة يجتمع فيها الانس مع الجان لتلاوة القران الكريم، وتأكدت بعد ذلك سلطته المطلقة على كائنات الخفاء، حتى صار في امكانه معالجة «اللقوة» دونما حاجة الى «المراية الهندية» فقام باهدائها - بدوره - الى احد تلامذته المقربين لديه، ويدعى سيدي ادريس، وهو الذي يوجد ضريحه اليوم بنواحي مدينة دمنات، فاصبح هذا الاخير محتكرا لعلاج المس بالجان واستقرت بركة المرآة العجيبة في ضريحه حتى اصبح ملقبا وشهيرا بسيدي ادريس «مول المري» اي صاحب المرآة.
تضيف الاسطورة تاقت المرآة الهندية الى صاحب الكرامات الفريدة بوياعمر الذي فوض اليه «ديوان الصالحين» مطلق السلطات على الجان، وترتعد امامه مخلوقات الخفاء فقررت (المرآة او القوة السحرية التي تسكنها) العودة اليه، هو الذي يحسن استعمال خصائصها العجيبة.
وتقول رواية اولى، ان جنية من اناث الجان استغلت نشوب معركة بين ابنتها وسيدي ادريسي، فاستولت على المرآة وحملتها الى «بو ياعمر» بينما ترى رواية اخرى وامر انتقال او لنقل عودة البركة الى «بو ياعمر» على النحو الذي تنقله الحكاية العجيبة التالية: بعد ان استقرت بركة «المري» في ضريح سيدي ادريس لم يحسن احفاده استعمالها بشكل سليم، فقد بالغوا في التهافت وراء الحصول على مكاسب مالية من معالجة المرضى وبلغ ابتزازهم.
وبلغ بهم الجشع الى ابعد الحدود، حيث لم يراعوا في ذلك حرمات ضريح جدهم سيدي ادريس، وعهده الذي قطعه لبوياعمر حين سلمه المري.
وذات مرة سمحوا ليهودي بان يدخل ضريح سيدي ادريس في مقابل مبلغ مالي كبير من اجل معالجته بواسطة «المري» وبينما كان الضريح غاصا بالمرضى والممسوسين بالجان، تحركت قوة خفية ونقلت في اللحظة نفسها التي دخل فيها اليهودي جميع من كانوا في ضريح سيدي ادريس ومعهم المراية الهندية الى ضريح «بو ياعمر» الذي يبعد عنه مسافة 30 كيلو مترا تقريبا ,.
وما ان وجد المرضى وذووهم انفسهم داخل ضريح «بو ياعمر» حتى اخذوا يبكون ويستنجدون ببركته طالبين الصفح فقد ادركوا من دون شك ان شيئا ما قد حصل، ولابد ان يكون خطيرا، هو الذي اعضب القوة السحرية للمرآة.
ومنذ تلك الحادثة الغامضة تختم الاسطورة استقرت «بركة المري» نهائيا بين اهلها المستحقين لها، والعارفين بقدرها واحتفظ بها احد الشيوخ الثقاة من احفاد بويا عمر في مكان مجهول وآمن ,,, الي ان «وقف عليه الولي» في منامه وطلب منه ان يدفنها سرا في جدار زاوية الضريح المواجهة للقبلة، وكذلك كان فصار «بوياعمر» للابد مطوع الجاني والجانية!
المحكمة الكبري
تقول الاسطورة انه اجتمع في زمن غابر «ديوان الصالحين» المؤلف من اربعة واربعين وليا من كبار اولياء المغرب، كي يوزعوا بينهم التخصصات والكرامات فقر قرارهم باجماع «الديوان» على ان يمنحوا لواحد منهم، هو الولي «بوياعمر» مطلق السلطات على قبائل الجان، وفوضوا اليه المهام الشاقة المرتبطة بالفصل في النزاعات والصدامات التي تحدث بين عالمي الانس والجان منذ بدء الخليقة والى ان يشاء الله، فكان اجتماع ديوان الصالحين ذاك اعلان نشأة محكمة الجان الكبري التي تعقد في صحن الضريح.
هي في معتقد الملايين من عامة الناس التي تعتقد في الكرامات الخارقة لبو يا عمر محكمة تنظر في «الملفات» التي تعرض عليها ككل المحاكم الحقيقية، ولها قضاة وجلادوها من نوع خاص، وهي مهيكلة بدهاء وفق التصور الاسطوري لمحكمة سليمان الحكيم.
وفي فناء الضريح وداخل غرفة يتكدس مرضى وممسوسون بالجان من الجانسين ومن كل الاعمار بعضهم قضى هناك عدة سنوات في انتظار حصوله على «الاذن« من «السيد» (اي من بوياعمر) كي يعود الى اهله.
اطفال صغار يقيمون برفقة امهاتهم المريضات، وامهات انقطعن عن حياتهن الاجتماعية الى جانب الازواج من اجل البقاء مع بناتهن المريضات ومجتمع من المرضى وذويهم ائتلف من حوالي الضريح وحده المرض والامل في العلاج ومحكوم عليه ان يقيم ما شاءت له المحكمة الغيبية ان يقيم الى ان يصدر «الاذن» للفرد منه بنهاية «العلاج» والانصراف للعودة من حيث أتى.
ا
لماء الذي في المرجل النحاسي يغلي فوق لهيب نار قنينة الغاز الصغيرة وسحائب البخار الحار(السبولة) تحدث عند خروجها من فم المرجل صوتا يشبه صغيرا متسارعا «في مواجهة الأنظار المشدوهة للمرضى واهلهم يمد مول المقراج (اي صاحب بركة المرجل) يدا منفعلة الى المقراج ليرفعه من على النار تحدق الاعين القلقة بخوف وامل في ما يصدر عن «الشريف» الذي يتدلى على وجهه شعر رأسه المتراقص وبحركة سريعة تنال اعجاب الحاضرين يفرغ من الماء الساخن درجة الغليان ما يكفي لملء فمه، من دون ان يبدي ادنى تأثر لذلك ثم يقوم ببصقه على رؤوس المرضى القابعين عند قدميه، يعيد الكرة من جديد فتتسابق رؤوس اخرى لنيل «البركة» والجميع يولول في هياج هستيري.
ان «موالين المقراج» (اصحاب بركة الماء الساخن) هم احفاد بو ياعمر المتخصصون في نقل بركته المعالجة الى المرضى من خلال بصق الماء الساخن عليهم، او الاكتفاء بنفث البصاق عليهم، خصوصا حين يتعلق الامر باطفال صغار او رضع لا يتحملون درجة غليان الماء.
فجأة يتعالى في ركن من الضريح الفسيح نشيج بكاء طويل النفس يليه صراخ متقطع وحاد لا البكاء ولا الصراخ يثيران فضول العالم الهائم الذي يضج بجلبته المكان الحمقى مقيدون بسلاسل من ارجلهم ويتجولون بحرية كاقنان من زمن العبيد، هي ليست سلاسل عادية -- يقول الشرفاء الرحاليون احفاد بوياعمر - فهي ما ان توضع في اطراف اشد الممسوسين بالجان عنفا حتى يعود اليهم هدوءهم.

ان المقيمين في ضيافة الولي بويا عمر صنفان: صنف ينتظر ان تبث المحكمة الكبرى في «ملفه» مع الجاني الذي «يلبسه» وقد تطول فترة الانتظار او تقصر حسب مشيئة الولي (اي احفاد المسيرون للضريح).
والصنف الثاني من ضيوفه هم اولئك الذين صدر في حقهم حكم يقضي ببقائهم في جوار الضريح لاشهر عديدة او لسنوات حتى!
لكنهم جميعهم منتظرون او محكومون يبدو ان العلاج بطقس التطهر اولا، الذي يقتضي منهم فور الوصول الى تساوت ان يطعموا جوفهم من تراب «السيد» معجونا بماء النهر المقدس.
عندما يمثل مريض امام المحكمة الكبرى ـ تتغير نبرات صوته، لأنه يتكلم بلسان الجاني المعتدي عليه الذي «يسكنه» وتبدأ وقائع المحاكمة الغيبية بطلب الاحفاد من الجاني «التسليم» (اعلان الخضوع) لبويا عمر، والعملية في حقيقتها تقوم على صرع الجان ويختص بها احفاد الولي المعروفون باسم «موالين الاذن» (اصحاب الاذن) وهم المفوض لهم دون غيرهم بمقارعة الجان ومفاوضته بهدف «اخراجه» من الجسد المريض يفعلون ذلك و«بركة» جدهم بويا عمر تحميهم من اذى مخلوقات الخفاء الشريرة، خلال «المحاكمة» اي خلال حصص صرع الجان.
ويتملك الحال أحد «الملبوسين» بالجان، فيتمرغ فوق أرض الضريح, يأخذ صوته نبرات غير عادية، فالجاني يتكلم بلسانه ليرد على استنطاق «مول الاذن», يكشف عن هويته، ثم بعد مفاوضة غريبة يفرض الجاني شروطه «لمغادرة» المريض, وفي أغلب الحالات يطلب كشرط أساسي أن يراق دم قربان (ثور أوكبش، حسب امكانيات المريض) كي يعقد مصالحته مع خصمه والآدمي، ويضيف الى ذلك اشتراطه على المريض ان يقضي مدة معينة بضريح بوياعمر كنوع من العقاب.
بعد حصول الاتفاق الغريب في المحكمة الغيبية، يتدخل «المعلم بوشويشية» وهو من أولياء الجان وجلاد المحكمة، كي يقدم الجاني الماثل أمامها القسم بين يديه، متعهداً بأن يترك المريض بسلام عندما يستوفي هذا الأخير الشروط المفروضة عليه.
لكن قد يحدث الا يكون الجاني «المصروع» من النوع السهار المراس، فيرفض حتى مجرد الاعتراف لبويا عمر بسلطانه على الجان, وهنا يتدخل «المعلم بولحرير» الذي يشغل في تراتبية النظام القضائي الغيبي لبوياعمر، قاضياً على قبائل الجان وحاملاً لخاتم سليمان الذي تهابه الجان, يتدخل بأمر من «مول الإذن» الذي يقود المحاكمة (أي حصة صرع الجان) فيخرج الجاني المتمرد من الأدمي المريض ويسلمه الى «سيدي الشتوي»، وهو جني آخر من خدام المحكمة مهمته كجلاد ان يحرق الجان المتمردين (النواقم).
أما اذا تمكن جني متمرد من الفرار من المحكمة الكبرى، فإن «لمعلم اليزيد»، وهو الجاني فارس المحكمة يقوم بتعقبه لاعتقاله، ثم اعادته الى سلطة الولي بويا عمر كي ينال عقابه.
وفضلاً عن هؤلاء «الخدام» الأربعة، تضم هيكلة محكمة الجان الكبرى ايضاً «الجاني الرباني» مولاي احمد الرحالي، الذي تتحدد مهامه في حماية «موالين الإذن» وهم احفاد بوياعمر المأذون لهم بمقارعة الجان.
ان استعراض تشكيلة المحكمة الغيبية لبوياعمر، يسمح بإبداء ملاحظتين اثنتين على الأقل:
من جهة، تتشابه اسماء خدام المحكمة من أولياء الجان مع الاسماء الآدمية المتداولة (أحمد الرحالي، اليزيد، الشتوي,,,) عكس ما هو معروف عن حمل مشاهير الجان لأسماء غريبة عن النطق المحلي، كشمهاروش وميرا، وغيرها,,, ومن جهة ثانية، نلاحظ ان الألقاب الدرجات تتوزع، بشكل لم تبرره الأساطير، بين «لمعلم» التي يطلقها المغاربة عادة على كل حرفي برع في حرفته وبلغ فيها درجة الاتقان, و«سيدي»: و«مولاي» وهي ألقاب تستعمل «لتشريف» فئة خاصة من الناس,,, حيث «سيدي» تنطق قبل اسم الأشخاص الذين يميزهم علمهم او جاههم عن عامة الناس، بينما «مولاي» تطلق على من ثبت انحدار اصوله من الدوحة النبوية الشريفة, فكيف يحمل الجاني «بولحرير» لقب «لمعلم»، وهو الفقيه القاضي الموكول اليه اقامة العدالة بين قبائل الجان، بينما يحمل جلاد المحكمة (الشتوي) مثلاً، لقب «سيدي» الأكثر تشريفاً؟ ولماذا تتوفر لبعض اولياء الجان مقامات، بنيت قريباً من ضريح بوياعمر، تتم زيارتها واقامة طقوس خاصة فيها كجزء من «زيارة» الولي بوياعمر,,, بينما خدام آخرون ليست لهم مقامات؟
وإذا أخذنا العدد الهائل من الزوار الذين يفدون سنوياً وبلا انقطاع الى الضريح دليلاً على نجاعة اساليب العلاج النفسي والبدني التي يحصلون عليها، فإن السؤال يثور حول السر الذي يجعل بوياعمر يستقطب من الحمقى والمرضى اليائسين اكثر مما تستقبل المصحات العمومية في المغرب.
أسئلة نطرحها دون ان نجيب عنها، لأنها بعض من الألغاز المحيرة التي تقوم عليها محكمة الجان الكبرى في بوياعمر

الجان والتنقيب عن الكنوز (د. مصطفى واعراب)


لا يزال الاعتقاد قائما حتى اليوم، لدى سكان بعض الجهات في المغرب بان مياه نهر او نبع ماء أو اذا لمست قطعة حديد، فإنها سوف تحولها الى قطعة من المعدن النفيس، وهكذا يعتقد الناس في منطقة (بوكماز) مثلا وهي منطقة تقع في أعالي جبال الاطلس الكبير باقليم ازيلال، ان المياه الغزيرة الموجودة بمناطقهم محملة بشكل طبيعي بالزئبق الأحمر الذي ما ان يلمس الحديد حتى يحوله الى ذهب خالص!
ولكن اعتقاد المغاربة في كون باطن أرض بلدهم مليئا بالكنوز، يظل هو الأكثر شيوعا بدليل ما تنشره الصحف من حوادث قتل ونصب واحتيال يكون احد طرفيها بالضرورة نصابا ضحك على ذقن طماع وابتز امواله، بدعوى تمكينه من كنز مرصود بالجن.

ويعد البحث عن الكنوز احد مجالات السحر التي تحظى باهتمام صنف خاص من المتعاطين للسحر، الذين يتكتلون في اطار شبكات متخصصة في عمليات التنقيب، لإخراج الكنز أو الخبيئة من مخبئها المرصود - منذ الأزل - بالجن المكلف بحراستها!
معتقدات مغربية حول الكنوز
يعد ظهور قوس قزح في السماء اعلان استغاثة، من كنز يشير للعارفين بسره، الى مكان دفنه، حتى يأتوا اليه ليخلصوه من أسر الجن الحراس! وحدهم العارفون بأسرار الكشف عن الكنز والخبيئة في استطاعتهم تحديد مكان تواجد موقع الدفن، عند قدم قوس قزح واخراجه من مخبئه السري - من دون خسائر.
وان الذي ينصت للمغاربة - يقول عالم الاجتماع المغربي الراحل بول باسكون - يعتقد ان المغرب مستودع عجائبي للكنوز - ففي منطقة يؤكد لك اشخاص رزناء متزنون انهم يملكون الاادلة القاطعة على ان ثروة هائلة من القطع الذهبية والأحجار الكريمة والأسلحة الغالية، قد اكتشفت اخيرا مدفونة في باطن الأرض وان استخراجها وشيك.
واذا ما أراد شخص غير متخصص في استخراج الكنوز أن يرى موقع الخبيئة أو الكنز بسهولة، ثمة طرق في غاية اليسر، ومنها ان يأكل قلب طائر النورس نيئا، فإنه يرى (من وجهة نظر المعتقد) كل ما هو غير مرئي في مخابئ الكنوز والجن الذي يحرسونها تحت الأرض.

وهؤلاء الجن الحراس هم مخلوقات ذميمة وقزمة، تسكن في شقوق باطن الأرض والمغارات والخرائب والحفر, وهي لا تنام أبدا، بل تغفو فقط فوق ركام الذهب والفضة والأشياء النفيسة الأخرى التي اوكلت اليها مهمة حراستها من طرف ملوك الجن.
الاحتواء
ومن أكثر المناطق المغربية شهرة باحتواء الكنوز، نذكر منطقة سوس (الجنوب) ومراكش وآيت عتاب عند مقدمة الاطلس الكبير، وبشكل عام كل المغارات وأطلال الخرائب والحفر (خصوصا تلك الموجودة منها في المقابر القديمة).
ففي مراكش مثلا، صرح لنا ساحر يتشغل في مجال التنقيب عن الكنوز انه توجد منطقة شاسعة يناهز طولها ثلاثة كيلومترات، في ضواحي تلك المدينة الحمراء يعج باطنها بالكنوز!
وتدعم مثل هذه المزاعم بعض الأساطير التي يحفل بها الفولكلور المحلي هناك، حيث يحكي ان الجن الذي يقومون بحراسة تلك الكنوز الكبرى يسمع صخبهم الذي يحدثونه كل ليلة خميس، فهم - حسب الاسطورة - يغالبون النعاس الذي يداعبهم في أعقاب اسبوع من الحراسة الأمينة، بالرقص الصاخب والعزف على الغيطة (المزمار) والضرب على الطعريجة (الطلبة)، ويتعالى ضجيج حفلهم الاسبوعي الساهر من أعماق نهر تانسيفت الذي يمر تقريبا من مراكش.
وان استخراج الكنوز ليس لعبا، بل هو عمل في منتهى الخطورة لما يضمره من مجازفة قد تقود كل من يقدم عليها من دون معرفة عميقة بعلوم «الجداول» والتعزيم، الى حد الاختفاء عن الوجود عند أي خطأ يقوم به! والباحثون عن الكنوز رغم كل «علمه» وحكمته لا يستطيع ان يستخرج كنزا من مخبئه دون اللجوء الى مساعدة، وغالبا ما يقوم بالعمل فريق من «الطلبة» (الفقهاء الحافظون للقرآن) الذين يستعينون بشخص له علامات خاصة تدل عليه ويسمى في اللسان الدارج للمغاربة «الزوهري».
والزوهري هو انسان ذكر أو أنثى لا يستطيع الروية من بعيد، راحة يديه ملفوقتان (خط يقطع راحة يدع عرضا) وكذلك لسانه, وهذه العلامات تدل على ان من يتوفر عليها هو من أبناء الجن تم استبداله في مولده، بأحد ابناء الآدميين, وهذه الصفة فالزوهري لا يخاف الزوهري من الجن امثاله ان هو اقترب من الكنز, ولذلك يلجأ السحرة الى خطف الاطفال الذين لديهم يدان ملفوقتان للاستعانة بهم لنقل محتويات والكنوز,,, ينزلونهم لينوبوا عنهم في افراغ المحتويات النفيسة تحت الانظار العاجزة للجن الحراس, ولو فعل السحرة المنقبلون ذلك بأنفسهم لتعرضوا لانتقام لا يرحم، حيث يقوم الحراس برميتهم في مكان يبعد بمسافات طويلة عن مقع تواجد الكنز.
وكثيرة هي الحكايات التي تتردد على مسمع الباحث حول الموضوع، وتؤكد جميعها اختفاء عامضا لساحر متهور لم يلتزم بالمحاذير عن جهل أو تقصير أو استهتار.
وكانت المعتقدان السحرية في الماضي، تنذر الزوهري لمصير بشع يتحدد في ذبحه فوق موقع الكنز، لأن الجن الحراس متعطشون جدا لدماء هذا النوع من المخلوقات، الذين ترى فيهم الأسطورة جنا تربوا في كنف البشر, وربما كان هذا الاعتقاد مرتبطا بطقوس القرابين البشرية التي كانت تقدم عند مواقع تواجد الأرواح لاسترضائها، لكنه حسب معلوماتنا انقرض من وصفات السحرة.
المستودع
الحكاية نفسها تتكرر دائما: «يأتي اثنان أو ثلاثة من الفقهاء السويين (المنحدرون من منطقة سوس في جنوب المغرب) الى قرية ويطلبان «ضيف الله» يأكلون ويصلون ثم ينامون عند مضيفهم, وعند منتصف الليل يغادرون ببت المضيف في اتجاه مجهول حاملين معهم عدة غريبة للحفر وتقليب الأرض, و اذا ما غامر شخص باقتفاء آثارهم، فإنه سوف يقضي ساعات الليل مراقبا طقوسهم الغريبة التي يقومون بها على ضوء ضموع، حتى فريق المنتقبين من بينهم الأقدر على تلاوة «العزائم» والسور القرآنية من دون توقف طيلة المدة التي تستغرقها العملية، بينما الآخرون يشتغلون في صمت، وإلا أثاروا نقمة الجن الحارس للكنز عليهم، بدل استرضائه والدفع به الى مساعدتهم في استخراج الكنز, وقد ينجم عن نقمة الجني الحارس «نفي» المنقبين الى ربوع خالية في أطراف الأرض البعيدة، أو اخفائهم نهائياً عن الوجود,,.
ويشكل الديك عنصراً أساسياً في وصفات البحث عن الكنوز: فهناك وصفات «للكشف عن الكنز أو الخبيئة» بواسطة: «الديك الأفرق، والديك الابيض وبيضة الديك، الخ, وتعتبر تلك التي تعتمد على الخصائص السحرية لبيضة الديك هي الأسهل في زعم السحرة».

ومن أجل الحصول على هذه البيضة العجيبة (التي لا وجود لها الا في خيالهم)، يترك الديك سبع سنوات في خم الدجاج، وعند متم السنة السابعة، يضع بيضة من الذهب، يستعملها (الطلبة) في الكشف عن الكنوز, وتتم العملية بسهولة متناهية كالتالي:
«توضع البيضة الذهبية في المكان المشكوك في تواجد الكنز فيه، فاذا كان الكنز موجوداً بالفعل، فإنه بمجرد وضع البيضة فيه، ستنفتح الأرض (مثل كنز علي بابا) ليحمل الباحث من محتويات الكنز ما يشاء»!
من الوصفات الأخرى التي تدخل في عمليات رصد مواقع الكنوز، هناك تبيع الديك» وتفصيله كالتالي: يكتب الساحر سورة الشعراء بماء الزعفران المخلوط بماء الورد يوم الاثنين والشمس في السماء، ثم يضع الورقة في جلد ضبع مع قليل من التراب المأخوذ من جحر ذلك الضبع، ويعلق كل ذلك في عنق ديك ابيض، ثم يخلي الساحر سبيله بعد ذلك في المكان الذي يشك في وجود الكنز فيه، ويبخر بالقصبر، ولن يتوقف الديك عن البحث الا بعد العثور على الكنز، حيث سيشرع في نبش الأرض بمخالبه وهو يصيح وينتفض!
وللكشف عن مكان الكنز أيضاً، ينصح البوني بكتابة الأضمار على أربع بيضات بنات يومها (أي باضتها الدجاجة في اليوم نفسه الذي تستعمل فيه)، ثم يطلق البخور ويربع (لي يرسم مربع حول المكان المشكوك في وجود الكنز فيه)، وتوضع مجمرة وسط المكان ويقرأ عليها قسم الطاعة (لا نجد فائدة في سرده، لطوله ولتضمنه لعبارات ورموز سحرية غريبة) 21 مرة واقفاً فإن البيضاء الأربع، يزعم البوني، سوف تجتمع على المحل المقصود.
فتح واخراج الكنز
يرسم الساحر جدولا في ورقة، ويضيف اليه خصلة من حرير أو صوف أو ريش ويبخر بالمقل الأزرق والصندل وهو يقرأ سورة الكهف الى زن تطير الخصلة نحو المكان المتواجد فيه الكنز.
وإذا لم تطر رغم كل ذلك، فمعناه أنه لا وجود لأي كنز!
وعندما يكون في المكان كنز، قد تحلق في الجو نحلات، فهي من حراس المكان، ويستطيع الساحر ان يتخلص منها بتبخير المكان بالبخور الطيبة الرائحة.

اما اذا خرج من الارض نوع من الجعران الذي هو في الحقيقة عبد من قبيلة الجن التي يحكمها (دعيوش) فان الساحر يردد بعض الطلاسم المفهومة ويبخر المكان فول الكنورز (وهي مادة لا يعلم شكلها وحقيقتها الا السحرة الباحثون عن الكنور) فينسحب الجعران الى مخبئة وقد تخرج بعده ضفادع هن في الحقيقية اناث الجن الحاسرات للكنز، فيقرأ عليها الساحر سورة من القرآن فيختفي بعدها، فيخرج ثعبان هو في حقيقته جني من قبيلة المذهب (ملك الجن) فيقرأ الساحر سورة اخرى ويبحر المكان بالقصبر، فيفر الثعبان وليظهر بعد تيس (ذكر الماعز) او حيوان اخر يمشي على اربع قوائم فذلك يهودي (كذا) يقرأ عليه الساحر سورة اخرى ويبخر بروث (زبل)البهائم فيختفي الحيوان ليظهر بعده جمل وهو اصعب عائق قبل الوصول الى الكنز.
يقرأ عليه الساحر سورة معلومة لديه من السور القرآنية ويبخر بالمسك والعنبر وبعض البخور الاخرى الطيبة الرائحة فيختفي الجمل فاسحا للساحر المجال امام الكنز اخيرا.
ويستطيع الساحر ان يتفادى كل تلك العوائق التي ذكرنا، بعمل بسيط يتمثل في كتابه سورة الملك في صحن، ويغسله بماء يرش به موقع الكنز، فان الجن الحارسين له لن يستطيعوا المكوث بالمكان، ويستطيع الساحر بيسر اخذ ما يشاء منه.
وتصور روايات اخرى الجن الذين يحرسون الكنوز في شكل مخلوقات ذميمة قزمة تسكن شقوق باطن الارض والمغارات والحفر، وهي لا تنام بل تغفو تحت قباب الذهب والفضة ومناجم المعادن النفيسة التي هي مكلفة بحراستها من طرف ملوكها (ملوك الجن).
ويعتبر موشون ان هذه الاسطورة اتت الى المغرب من الشرق القديم، ولابعاد هذه المخلوقات المرعبة، يوقد الساحر النار في مجمر ويحرق فيه:
«اشواك القنفذ واوراق بعض النباتات، من بينها حبة الحلاوة العمياء، والشب وبعض الحبوب الاخرى المختلفة مع مشيمة حمارة ولدت للمرة الاولى وحافر حمار وحرباء حية بعد ان يقطعها الى اجزاء، والكبريت ودرقة (قشرة) سلحفاة الماء وفك كلب».
واذا ما اخطأ الساحر في الوصفة او في الطقوس المرافقة، فان تلك العفاريت القزمة سوف تحمله مع كل النقابين المتطفلين المرافقين له، لترمي بهم بعيدا عن مكان تنقيبهم!

ملوك الجان السبع (د. مصطفى واعراب)

بعد ان عرضنا المكانة الاساسية التي يحتلها الجان في عالم السحر والسحرة، يقودنا مجرى الحديث بالضرورة الى طرق موضوع ملوك الجان، الذين يلعبون حتى وقتنا الراهن ـ دورا اساسيا في المعتقدات والممارسات السحرية بالمغرب، حيث اقيمت لبعضهم اضرحة ومزارات يتبرك منها الناس وتقام فيها طقوس غريبة تمزج السحري مع الديني كما تدخل اسماء اولئك «الملوك» في اعداد جداول سحرية شديدة المفعول وتقام على شرفهم حفلات طقوسية خاصة في مناسبات محددة تتضمنها يومية السحرة المحترفين.

ملوك الخفاء
ملوك الجان في التراث السحري المتداول، الشفوي والمكتوب هم موضوع خلاف آخر تضاربت في شأنه الآراء والاتجاهات فمرة نجدهم خمسة بأسماء آدمية مذكرة واخرى مؤنثة ومرة ستة او اربعة واربعون تنقص اسماؤهم او تزيد بحسب السحرة او المناطق المغربية.

ولكن الرقم سبعة ذي الخصائص السحرية الشهيرة هو الذي يعود بكثرة، ويحصر ملوك الجان في المذهب، مرة الاحمر، برقان، شمهورش، الابيض وميمون وفيما عدا اسمي شمهورش ومرة الغريبين عن النطق المغربي العربي والامازيغي فإن الاسماء الخمسة الاخرى معروفة ومتداولة في المجتمع المغربي بكثرة كأسماء لافراد.
وقد عرف اسم ملك الجان (مرة) تحريفا متواليا طال حتى جنسه الذي تحول حسب الاسطورة من الذكورة الى الانوثة, فحسب البوني في مصنفه منبع اصول الحكمة فإن اسمه كان هو الحارث بن مرة لكننا نجده تحول الى (مراته) ان (لاله) لفظ تشريف يسبق عادة اسماء النسوة ذوات النسب المتحدر في اعلى الشجرة من الدوحة النبوية الشريفة.
وحسب المعتقد فإن (لالة ميرة) تنال في توزيع الادوار بين ملوك الجان السبعة بركة استقراء مكنون النفس البشرية الغامضة وكل ما يرتبط بعالم الغيب ولذلك تقام لتلك الملكة المهابة الذكر حفلات خاصة كي تحضر وتدخل في جسد وتسرع في كشف اسرار النسوة المحيطات بها.
اما شمهورش الذي تطلق عليه العامة اسم شمهاروش او سيدي شمهاروش الطيار فشهرته تتجاوز حدود المغرب الى الشمال الافريقي وربما مصدرها ـ اضافة الى غرابة الاسم ـ كونه الوحيد من الملوك السبعة الذي خصص له مقام مقدس معروف.
ويعتقد الناس في جنوب المغرب (سوس) انه هو الذي يخرج من منابعها كل الانهار والاودية التي تخترق بلادهم وهو الذي يقود مجاري المياه العذبة في تلك المناطق شبه القاحلة، لتروي الأرض والبشر والدواب,,.
العامة
واعتبارا للمكانة المهمة التي يحظى بها لدى العامة فقد اقيم لهذا الجني الملك مزار عند قدم جبل توبقال في الاطلس الكبير، الذي يعتبر اعلى قمة جبلية بالمغرب,,, هل هو مكر المصادفة ام تراه نداء الأعالي، ما جعل (سيدي شمهاروش) ينسحب نحو تلك المغارة المحاطة بنقط تجمع مياه الثلوج والامطار والجبال المتوحشة.
وحسب الاسطورة فإنه انسحب الى حيث ضريحه الآن ليمضي هناك القرون الاخيرة من عمره الطويل.
وينبني تقدير الطيب الفرنسي على تصريحات الفقهاء السحرة الذين اخبروه (في 1910) ان الطلاسم والجداول التي تتضمن اسم شمهاروش فقدت مفعولها السحري، وانهم حين سألوا عن سبب ذلك بعض الجن، اخبروهم بأن الملك اي شمهاروش قد مات منذ سنوات.

وقد كان سكان الجبل والهضاب القريبة من ضريح سيدي شمهاروش يجتمعون حول المغارة خلال مواسم القيظ (السمايم) كل عام خلال الفترة المراوحة بين اواخر يوليو واواخر غشت ليقيموا له موسما تذبح خلاله ثيران سوداء اللون (رمز الفحولة والقوة) ولكن العادة جرت ان يغادروا مسرعين مكان التئام الموسم كل يوم وقت حلول صلاة العصر الى مكان بعيد عن المغارة, وكل من بقي هناك سوف ينال من غضب خدام الملك انتقاما شديدا، حيث تتهاطل عليه سحب الغبار والحجارة من دون ان يرى مصدرها.
فكل يوم في اوان العصر، يصبح الجبل كله ملكا للجان المقيمين على خدمة ملكهم المتوفى سيدي شمهاروش.
المصنفات
وتذهب مصنفات التراث السحري المكتوب الى ان لكل واحد من ملوك الجن ابناء واتباعا يقطنون في اماكن محددة وهكذا فللملك الابيض (ميمون الابيض) بنت اسمها (شمس القراميد) ويقطن ابناء الملك الاحمر المياه السطحية.
اما (بنو قماقم) فيسكنون الجبال العالية وعيون الماء الباطنية وهكذا، وفي زعم السحرة ان لكل واحد من ملوك الجان السبعة لونا خاصا يتوسل اليه به فبالنسبة لميمون (الكناوي) لونه الاسود والاصفر لميرة الخ، ولذلك ترفع الرايات وتلتحف الاجسام بأثواب من لون واحد هو لون الملك المراد دعوته او التشفع بسلطته على ممالك الجن اثناء حفلات خاصة.

كما يقتسم ملوك الجن ايام الاسبوع، لكل واحد منهم سلطة على يوم محدد ففي زعم كتب السحر دائما ان يوم الاثنين يقع تحت سلطة (ميرة) والثلاثاء تحت سلطة الاحمر بينما الاربعاء يحكم برقان والخميس تحت سلطة شمهروش واما الجمعة والسبت والاحد فعلى التوالي تحت سلطة الابيض وميمون الكناوي والمذهب ويوضح جدول دعوة الشمس المستعمل على نطاق واسع في صنع جداول اخرى انطلاقا من مكوناته السحرية الاساسية تقسيمات اخرى تمنح لكل واحد من ملوك الجن السبعة سلطة على كوكب او حرف من الحروف الابجدية الخ (انظر الاطار).
ومن تجليات الاعتقاد واسع الانتشار في قداسة ملوك الجن ان الكثير من الاغاني الشعبية تردد بعض اسمائها مسبوقة بعبارات التقديس للأميرة او سيدي ميمون الكناوي في اغاني بعض المجموعات مثلا.
كما تنظم حفلات مغلقة على شرفهم، توسلا لمساعدتهم في قضاء اغراض اجتماعية او طلبا للشفاء من مرض استعصى على العلاج.
«الحضرة» وليمة طقوسية
في كل مدن مغرب اليوم يوجد اتباع طائفة (كناوة) التي يسميها رجال الدين المتشددون طائفة الشيطان والسبب في اطلاق هذه التسمية المخيفة هو ما يلاحظ على كناوة من ممارسة طقوس (الدردبة) او (الحضرة) التي هي حفلة على شرف ملوك الجان، وخصوصا منهم (سيدي ميمون الكناوي) الذي هو المشرف الروحي على الطائفة.
و«الحضرة» هي احتفال طقوسي يشبه حفلات الزار في مصر، يجري تنظيمها في مواعيد سنوية محددة كعيد المولد النبوي وليلة القدر او خلال شهر شعبان كما يمكن ان تنظم خارج تلك المواعيد بطلب من ميسوري الحال او بأمر من (عريفة) وهي المرأة التي تتوافر لها سلطة التوسط لدى الجن.
وتقام الحضرة داخل فضاء مغلق وحميمي، من اجل تخليص المرضى الممسوكين بالجن، الذي تسبب لهم بهذا الشكل او ذاك في متاعب صحية او اجتماعية.
«الحضرة» ليست بهذا المعنى حفلا لصرع الجن، لأن «الصريع» يتميز بالتعامل العنيف مع المرضى (ومن خلالهم مع الجن) بينما الحضرة هي طقوس احتفالية اشبه ما تكون بعرس صغير يقام على شرف الجن و«سادتهم» وتكون خلالها (العريفة) العرافة هي نجم الحفل وسيدته.
وتتم برمجة طقوس الحضرة وفق تسلسل منظم يسري على بضعة ايام او يوم واحد حسب الحالات و«الحضرة» تمارس في المغرب خلال بعض المناسبات الدينية كعيد المولد وشعبان (في هذه الحالة تسمى «شعبانة» وتتم وفق النموذج التالي:
في اليوم الاول، تلبس (العريفة) (وهي منظمة الحفل) ثوبا ابيض و«تنقش» يديها بالحناء وتجلس وسط الحفل ومن حولها تدق الطبول وتنشد الامداح النبوية وشيئا فشيئا يرتفع ايقاع الرقص الى ان يفقد الحشد البشري زمام التحكم في النفس وعند نهاية الحفل تنفس الحاضرات عن رغباتهن المكبوتة عبر شحنات «الجذبة».
حين يعود الهدوء يتم ذبح دجاجة فوق رأس العرافة التي تشرب من الدم الحار المنساب عليها ثم تمسح فمها بمنديل ابيض لم يستعمل قط من قبل.
وخلال اليوم الثاني من «الحضرة» يتم ذبح عنزة سوداء اللون (القوة السحرية للون الاسود) وترتدي العرافة ثوبا بلون اصفر (الاصفر هو لون «ميرة» كما رأينا) ويهتز الحاضرون على وقع دق الطبول والاناشيد الصادحة في ترديد موحد: (اللاميرة هاك الجاوي، هاك البخور) ثم توزع في اثر ذلك اكلة خاصة بالمناسبة تسمى (الحلو والمسوس) وهي وجبة دجاج مهيئة بتوابل خاصة ومن دون ملح لأن الجان الذي سيأكل» منها لا يحب الملح يتناول جميع المحتفلين حصتهم من الحلو والمسوس وتدهن الحاضرات به اجسامهن كما ترش اركان البيت الذي تقام به «الحضرة» بهذا الاكل «اطعاما» للجن منه بالمجان بينما يضع كل من تناول حصته ممن بين الحاضرين مقابلا ماليا في اناء خاص يطاف به عليهم.
وفي اليوم الثالث من «الحضرة» تلبس العرافة (وهي عروس الحفل) ثوبا احمر (وهو اللون الخاص بملك الجن الاحمر) ويوزع على الحضور القليل من الحليب والتمر والجوز في مقابل مقادير مالية (دائما) يضعها كل واحدة فوق اناء خاص ثم يردد الجميع بعد ان يشتد هيجان الحشد اناشيد على شرف (مول الاحمر سدي حمر).
اما اليوم الرابع والاخير من ايام الحضرة فيخصص لـ «حلان المائدة» (فتح المائدة) وليس يعني فتح المائدة سوى تقديم الاتعاب للعرافة في شكل اموال وهدايا يقدمها لها المشاركون في الحفل شكرا وعرفانا.
والذي سبق له ان عاش اجواء ليلة من ليالي الحضرة كان شاهدا من دون شك على حالات فقدان الشعور الهذياني التي تتملك بعض النسوة في غمرة الرقص المحموم فيسقطن والشعر منسدل يكنس الارض وهن يتمرغن في هذيان يجري تأويله من قبل العرافة بأن الجن يقاوم الخروج, وتأمر اهل «المجذوبة» بعدم الاقتراب منها تجنبا للأذى ومن دون شك فإن للإيقاعات الطبلية المضبوطة دورا اكيدا في اطلاق القيود النفسية التي تكبل النساء فيندفعن نحو حلبة الرقص المجنون الى حين إفراغ آخر شحناتهن العصبية ثم ينهرن.
القرابين
وقد كانت عادات تقديم القرابين لملوك الجن و«سادتها» تتخذ اشكالا احتفالية اكثر سفورا الى حدود ماض قريب فقد اورد سالمون ان مريدي سيدي بلال الحبشي في طنجة (وهم من اتباع الطرق الكناوية قدموا من سوس) كانوا في بداية القرن العشرين يحيون طقوس تقديم هدايا الفول الى «رأس المول» قرب الاحجار المقطوعة منطقة في ساحل طنجة بعد ان يتم تبييضها بالجير لأنها «مسكونة» بجن البحر وكانوا يسوقون علانية الى هناك ثورا وجديا وهم يحملون شموعا موقدة في وضح النهار ويرقصون مع ترديد الصلاة على النبي ويرمون الفول الى البحر ثم يذبحون القرابين التي يذهبون لأكل لحمها عند احد اتباعهم يكون ـ ما امكن ذلك ـ احمق او مجنونا ثم بعد ذلك ينصرفون للرقص طوال الليل اما الجن (جان البحر الذي كانت الطقوس المذكورة تقام لتقديسهم) فأسماؤهم كانت: سيدي حمو سيدي موسى، للاميمونة، جميلة، عيشة ورقية».
وما زالت تمارس طقوس شبيهة بما ذكرنا حتى اليوم في بعض اضرحة المدن الساحلية لكن بشكل اقل سفورا, ففي ضريح سيدي عبدالرحمن بالدار البيضاء مثلا يتم ذبح الديكة، التي تحمل مواصفات خاصة ورميها في البحر قربانا لتهدئة غضب «الجنون البحريين» وشدة وطأتهم على المرض.
وعندما لا تفيد الطقوس الاحتفالية ولا القرابين المقدمة في تهدئة الجان و«اخراجه» من مساكنه الآدمية ينصح المريض باللجوء الى محكمة الجن الكبرى في (بويا عمر) باقليم قلعة السراغنة، وهي محكمة غيبية تمنحها الاسطورة مطلق الصلاحيات والسلطات في فض النزاعات بين الانس والجان، بشكل سلمي.

المرابطون والموحدون شجعوا السحرة وكانت لهم أسواق عامرة يؤمها الناس (د.واعراب)

ما الذي يجمع بين دخان البخور وامواج البحر ونور القمر وبيض الحرباء وعش الخطاف وروث الدواب ومخ الضبع؟
ليس الامر لغزا لامتحان ذكاء القارئ، فمن الواضح، في فهم كل مطلع على أحوال المجتمع المغربي، ان الذي يجمع كل هذه العناصر المتفرقة الى بعضها هو علاقة غامضة ومخيفة تدعى السحر, وتشمل مطلق الممارسات والطقوس الغريبة التي تمكن الفرد من جلب المنافع او المضار لنفسه او للاخر بحسب الطلب، وتحقيق كل غريب وعجيب من رغبات الناس التي تختلف ولا تنتهي!

إن السحر من اقدم المعتقدات والظواهر التي عرفتها البشرية منذ ليل التاريخ, وليس معروفا عن شعب من شعوب الارض انه كان يجهله، في الماضي كما في الحاضر, وذلك ما دفع علماء الاجتماع والانثربولوجيا الى الخروج باستنتاج مفاده ان السحر هو نتاج حاجات طبيعية مشتركة، كامنة في اعماق النفس البشرية المعقدة.
ومثل غيرهم من امم وشعوب الارض، عرف المغاربة منذ العصور الغابرة معتقدات تعبدية وسحرية ما زالت بقاياها صامدة ومتداولة بيننا حتى الان, فقد عبد البربر وهم المغاربة الاقدمون عيون الماء والاشجار والكبش ملك القطيع والكواكب وجن المغارات والعيون والهواء, واعتقدوا في السحر، اي في امكانية خلق شيء أو حيوان او بشر اما برسمه او بكل بساطة من خلال النطق باسمه, واعتقدوا انهم بذلك يستطيعون التحكم فيه والامساك به وتدميره او معاقبته, ومارسوا ايضا عبادة الموتى، وكانوا يوجهون قبورهم جهة مشرق الشمس ويدفنون مع موتاهم المجوهرات والجرار والقصاع الطينية لاعتقادهم في خلود الروح.
واذا كانت تلك معتقدات اسلاف البربر، فإن القارئ سيكتشف خلال الاتي من مقالات ان الكثير من المعتقدات والممارسات السحرية التي لا تزال رائجة حتى اللحظة الراهنة في المغرب، هي استمرار لتلك المعتقدات القديمة التي سادت منذ ما قبل التاريخ, واضيفت اليها خلال المراحل التاريخية اللاحقة بعض المعتقدات والطقوس الرومانية، خلال فترة الوجود الروماني بالمغرب، قبل الفتح الاسلامي, كما انضافت اليها في العصور الوسطى تأثيرات افريقية حملها معهم الى المغرب التجار الذين كانوا يجلبون العبيد من غرب افريقيا، بالاضافة الى التأثيرات القادمة من الشرق الاسلامي.
ويشهد التاريخ ان ملوك اكثر السلالات الحاكمة في المغرب اصولية وتشبثا بأحكام الشريعة الاسلامية، وهم المرابطون والموحدون، كانوا يشجعون او يغضون الطرف عن انتشار السحر والسحرة, وكانت في عصورهم للسحر اسواق عامرة يؤمها عامة الناس على مرأى ومسمع من السلطات، بل ان الملوك المرابطين حسب روايات تاريخية كانوا يستشيرون المنجمين، قبل عبورهم البوغاز الى عدوة الاندلس.
ويحكي المؤرخ ابن عذاري المراكشي في هذا الصدد، ان الامير أبا القاسم الذي كان يرافق يوسف بن تاشفين المرابطي، خلال غزوته للضفة الاندلسية من بوغاز جبل طارق، لم يعط الامر لجنوده بمهاجمة الجيوش المعادية الا بعد ما حصل على موافقة منجمه,, حيث يقول المراكشي «فأمر الامير ابوالقاسم منجمه بأخذ طالع الوقت والنظر فيه فوجده أوفق طالع وأسعد وأدلها على أن الظفر للمسلمين والدايرة للمشركين، حسب ما جرى الامر عليه,,».
وحسبنا هذه الاشارة التاريخية العابرة لنصل الى مغرب الحاضر، الذي لا يزال للمعتقدات السحرية القديمة فيه حضور قوي، من ابرز تجلياته ما نراه من رسم لاصابع اليد الخمسة على مؤخرة شاحنة,, او كتابة عبارة «عين الحسود فيها عود»، او تعليق حدوة الحصان على بعض ابواب الدور، بالاضافة الى الاقبال الذي لا يزال كبيرا على زيارة اضرحة الاولياء ودكاكين السحرة واسواقهم، الخ في مدن المغرب الكبيرة، كما فيقراه النائية.
ويدفعنا ذلك الى اعادة طرح السؤال القديم الذي طرحه بعض الانثربولوجيين منذ بدايات القرن الماضي: من اين اكتسب المغاربة تفوقهم على غيرهم من الشعوب المغاربية والعربية في مجالات السحر؟
المؤكد ان انفتاح بلادنا عبر التاريخ على رياح التأثيرات التي حملها معهم، بشكل متلاحق، تجار وغزاة او فاتحون فينقيون ورومانيون وقرطاجيون وافارقة ويهود ثم مسلمون، كان له دور ما في هذا «التفوق»، لكن من جانب آخر، يسجل تاريخ السحر في المغرب ان نخبة من الفقهاء، السحرة المغاربة وضعوا قبل قرون مصنفات تعتبر رائدة واعمالا مؤسسة في هذا المجال, ونخص منهم بالذكر ابا العباس البوني وابن الحاج المغربي، اللذين ألفا الكثير من الكتب في العلوم الخفية، لا يزال رواجها الكبير على طول الوطن العربي وعرضه حتى اليوم، دليلا قائما يشهد على تفوقها في الميدان.
وقد شكلت تلك المصنفات تحولا غير مسبوق زاد من نشر «المعارف الخفية» على نطاق واسع، حيث لم تبق أسرارا ثمينة تحتكرها صفوة الفقهاء السحرة، ونزلت الى الارصفة لتباع بأبخس الاثمان, وصارت ربات البيوت يتسابقن الى تجريب الوصفات الغربية التي تعج بها تلك الاوراق الصفراء، من اجل علاج طفل مريض او كبح تسلط زوج!
لكن، كيف نفسر تعايش بقايا المعتقدات السحرية مع التطور الهائل للعلوم في الوقت الذي يعيش فيه المجتمع المغربي المعاصر منذ عقود قليلة في بؤرة تحولات عميقة تمس بنياته وانماط التفكير والسلوك لدى الافراد والجماعات ومن عنف التحولات تستحيل الحياة اكثر ميلا الى الصعوبة والتعقيد.
والمعروف في علم الاجتماع انه في زمن التحولات العميقة تتنامى مشاعر عدم الاستقرار ويزداد انتشار الخرافات كلما زادت ظروف الحياة صعوبة، اي ان الخرافات تكثر وتنتشر بانتشار حالات القلق والاضطراب والشعور بالضعف والعجز عن مواجهة مشكلات الحياة ومخاطرها», ولذلك فإن السحر كما الخرافة في المجتمع المغربي، انما يقوم بتهدئة المخاوف الناشئة عن الاضطرابات التي تسود زمن التحولات الراهن.
وبعبارة أخرى يمكن القول ان السحر يحافظ على مشاعر الخوف من الانحرافات والتوترات المؤذية للمجتمع، فيلعب بذلك لصالح ضبط النظام الاجتماعي (القائم), فهو من الجانب السوسيولوجي مطمئن لانه يمنح للانسان الاعتقاد في التعرف على الشر وانه في الامكان معالجته, ومن الجانب النفساني، يلعب السحر دورا تفريغيا بتحديده لمبررات القلق لدى الفرد وتغييره لاتجاه العدوانية نحو عامل محدد للضر,, اما من الجانب الايديولوجي فإن السحر يفسر من خلال حركة الارواح الشريرة، انتقائية الحوادث والمصائب والويلات التي تصيب بعض الناس وليس الاخرين,,» ومن هنا الضرورة التي يفرضها السحر على الافراد باللجوء اليه في مرحلة التحولات العميقة.
إن هذه السلسلة من المقالات ليست تذكرة داود لمن يرغب في تعلم السحر, والوصفات التي سيجدها القارئ في بعض الحلقات تعمدنا التصرف فيها، بشكل يحبط كل محاولة لتطبيقها, واذا نوردها فلغاية وحيدة هي تقريب نمط التفكير السحري الى القارئ غير المطلع, ولن نكرر بما يكفي من الالحاح تحذيرنا للقارئ الكريم من مغبة تجريبها, وناقل الكفر ليس بكافر!
عندما شرعنا في تجميع المادة المرجعية لاعداد هذه المقالات حول السحر في المغرب، هالنا حجم الفراغ الكبير الذي تعانيه المكتبة المغربية حول الموضوع, فكل ما هو منشور باللغة العربية حتى الان لا يتجاوز بضع مقالات وكتابين او ثلاثة تتناول موضوع السحر بشكل عام, ولا تعكس بالتالي عمق وحجم انتشار الظواهر والمعتقدات السحرية في المغرب.
واغلب ما كتب حول الموضوع باللغات الاجنبية خصوصا الانكليزية والفرنسية، انتج خلال المرحلة التي سبقت وواكبت او تلت الوجود الاستعماري الفرنسي للمغرب، اي نهايات القرن التاسع عشر الى منتصف القرن العشرين الميلادي, وانتجته ثلة من المهتمين والباحثين الاجانب، اغلبهم فرنسيون، وللامانة نسجل ان بعضهم درسوا السحر في بلادنا بالكثير من العمق، فيما كان اخرون منهم متحاملين تحكمهم نظرة التفوق الاستعماري على شعبنا «المتخلف» و«المتوحش».
وفي مقابل فراغ المكتبة المغربية والعربية الملحوظ من المؤلفات التي تتناول السحر من وجهة نظر نقدية، لاحظنا ان «مكتبات الرصيف» تحقق ارباحا خيالية من اعادة طبع الكتب الصفراء التي تتناول مجالات واغراض السحر باستعراضها لوصفات مفصلة تفي بكل الاغراض التي تخطر ولا تخطر على بال انسان، وتلاقي اقبالا لا يتصور من قراء كثر، يميز اغلبهم بالكاد بين الحروف الابجدية!
قد يلاحظ القراء على هذه الحلقات انكبابها على المعتقدات والممارسات السحرية في ارتباطها بظاهرة الاولياء المتصوفة والزوايا الواسعة النفوذ الروحي في المغرب, ويجد ذلك مبرره في كون كاتب هذه السطورة يعتقد بتواضع لكن بيقين تام، انه «بين المقدس والسحري (في معتقد عامة المغاربة) ليس ثمة فرق جوهري»، كما خلص اليه (ادموند دوتيه) قبل قرن من اليوم, ونسوق دليلا على ذلك، مرة أخرى، ما نلمسه من تمسح بالمزارات والاضرحة التي لا تزال وستبقى لفترة طويلة مقبلة مجالا حيويا للسحرة وباعة الوهم, اولئك الذين يزعمون تخليص مرضى الخرافة من شر يلاحقهم ليمنحوهم في المقابل «البركة»، هذه القوة السحرية التي تفعل كل شيء تجلب العريس للفتاة العانس، وتشفي امراض البدن والعقل، كما تقرأ لاصحاب النفوس القلقة من المجهول صفحات المستقبل من دون غموض وبصيغ التفاؤل.
أليس ذلك هو التخصص الكبير للاضرحة وللسحر في المغرب؟

أنواع السحر الرسمي والشعبي (د. مصطفى واعراب)

في هذه الحلقة نتابع ما كنا قد قد تحدثنا عنه سابقا عن واقع السحر في المغرب حيث تطرقنا الى السحر الدفاعي واصول السحر الابيض وانواعه، وهنا يميز الباحث المصري محمد الجوهري، المتخصص في علم الفولكلور، بين السحر الرسمي والسحر الشعبي، الاول هو سحر الخاصة الذي يتطلب من ممارسيه ان يتوفروا على معرفة خاصة بعلوم وتقنيات السحر المعقدة، وهو يدور في اطار حلقة ضيقة من السحرة المحترفين، اما النوع الثاني فهو سحر العامة المتداول على نطاق واسع لبساطة وصفاته وسهولة تنفيذها.

ولتقريب القارئ من اطروحة الجوهري، نورد المثال التالي: عندما تفشل الشابة المغربية في الحصول على عريس، تنصحها النساء اللواتي في محيطها الاجتماعي المباشر بضرورة التبخر بحرباء تقتنيها من عند العطار (بائع مستحضرات السحر) الذي يؤكد لها انها حرباء عذراء(تاتة عويتقة)، كما هو مشترط فيها ان يكون، ترمي الفتاة العانس بتلك الحرباء المسكينة حية في النيران المتأججة، ثم تعرض جسدها الواقف للدخان المتصاعد منها، الذي تمنحه المعتقدات الخاصية السحرية لإبطال «العكس»، وهذا العمل نموذج للسحر الشعبي، ولكن لا يفيد التبخر في جلب العريس، تشد الشابة الرحال نحو ساحر متخصص، فيؤول لها الامر ويهوله، زاعما ان في القضية جنيا مسلطا عليها بواسطة جدول, ويفرض عليها شروطا باهظة (قد تصل الى حد مراودتها على نفسها)، كي يبطل لها مفعول السحر المعمول لها, وهذا النموذج الثاني وهو ما يسميه الجوهري بالسحر الرسمي.
ولأن السحر الشعبي سمته البساطة الشديدة في الوصفات، وسنعود اليه كثيرا في الحلقات اللاحقة، فإن الذي يهمنا هنا، هو أن ندقق النظر في انواع السحرة المحترفين، في هويتهم الاجتماعية والمسارات التكوينية التي يتدرجون عبرها، قبل أن يتوجوا سحرة معالجين.
تخصص مغربي
وفي تعريف الساحر ، يقدم احدهم وهو متخصص في معالجة السحر بالقرآن «العلامات التي يعرف بها الساحر» كما يلي: الساحر يسأل المريض عن اسمه واسم امه، ويأخذ أثرا من اثار المريض (ثوب، قلنسوة، منديل,,) واحيانا يطلب حيوانا بصفات معينة ليذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، وربما لطخ بدمه اماكن الألم من المريض أو يرمي به في مكان خرب, يكتب الطلاسم، يتلو العزائم والطلاسم غير المفهومة، يعطي المريض حجابا يحتوي على مربعات بداخلها حروف وارقام، يأمر المريض بأن يعتزل الناس فترة معينة في غرفة لا تدخلها الشمس او يعطيه اشياء يدفنها في الارض او اوراقا يحرقها ويتبخر بها.
ويتمتم بكلام غير مفهوم، واحيانا يخبر الساحر المريض باسمه واسم بلده ومشكلته التي جاء من اجلها، او يكتب له حروفا متقطعة في ورقة (حجاب) او في طبق من الخزف الابيض ويأمر المريض باذابته وشربه.
إن الساحر في المغرب ، كما في غيره من الدول العربية والاسلامية يولي العناية لاظهار تمسكه بالدين، فهو حافظ القرآن وعلام جيد بقواعد اللغة العربية، وبهذه الصفة، يضع نفسه في منأى عن اي شك في وثنيته، كما يلاحظ عالم الاجتماع المغربي الراحل بول باسكون.
والساحر في المغرب هو مصدر ثقة، يحظى بمزيج من مشاعر الخوف والتقدير في نفوس الناس, فهو يمتلك - في نظرهم - القدرة على التأثير في مصير حياتهم بالسلب او بالايجاب، حسب مشيئته، أليس الساحر الذي يكتب او على الاصح، يرسم الطلاسم، هو في البدء والمنتهى «الفقيه» و«الطالب» اي رجل الدين؟ وحتى مدارس تكوين السحرة التي سنتحدث عنها في سياق هذا المقال، هي في حقيقتها الظاهرة زوايا لتدريس الدين.
رجال الدين
إن هيئة رجال الدين المغمورين هؤلاء - والكلام مرة أخرى لبول باسكون - المنتشرون في البوادي تلعب دورا رئيسيا في صيانة المعتقدات السحرية وفي استمرار التصوف الشعبي، وحسب الباحث المغربي الراحل فإن «فقهاء» و«طلبة» البوادي يمارسون اعمال السحر كنوع من رد الفعل على ظلم اجتماعي لحقهم، حيث يقول عنهم باسكون انهم في الغالب ابناء عائلات مجردة من حقوقها او ابناء صغار لعائلات قوية، مبعدون عن السلطة (الاسرية) أو محرمون من الارث من قبل اخوة لهم اكثر حذقا منهم، ولانه يفترض فيهم انهم محرومون ومنتزعو الحيازة، لذلك وجهوا رغباتهم في الهيمنة نحو تصرفاتهم التحت ارضية (الشيطانية).
ولكن السحر ليس دائما خيارا انتقاميا تلاحق بشوره دفئة اجتماعية مهمشة افراد المجتمع، كرد فعل على حيف لحقها, السحر هو ايضا وأساسا امتياز اجتماعي يتهافت على نيله الكثيرون وتتوارث اسراره الثمينة أسر السحرة أبا عن جد، لما يحققه للمتعاطين له من وضع اعتباري متميز وعائدات مالية مهمة.هل نمنح المغاربة سبق التفوق في علوم السحر؟
في كتاب «ألف ليلة وليلة»، يتردد في حكايا شهرزاد ان السحرة عادة، متحدرون من المغرب، لكن ومن دون ان يكون في نيتهم الرد على تلك التهمة، يفاخر أبرز واضعي مصنفات السحر من المتصوفين المغاربة، بالفضل البارز لاساتذتهم المشارقة عليهم، في ما وصلوا اليه من «العلم» و«الحكمة» يفعلون ذلك، في مقدمة وخاتمة كل كتاب، كنوع من التباهي باستقاء «العلوم الحكمية» من منابعها الغزيرة والاصيلة، هناك في المشرق.
فإذا أخذنا المتصوف المغربي (البوني) الشهير عربيا بابداعاته في مصنفات السحر كنموذج، نجده يزعم في خاتمة مؤلفه «منبع اصول الحكمة» بأن شجرة الذين أخذ عنهم «علم الحروف والاوقاف» تنتهي في الاصل الى الامام حسن البصري.
وفي كل الاحوال وحتى اذا ما صح أخذ المغاربة عن اساتذتهم المشارقة، فالنتيجة تسمح لنا بالقول ان التلميذ تفوق على استاذه في مجال التأليف في العلوم الخفية، فمؤلفات ابن الحاج المغربي، وخصوصا البوني تعرف انتشارا واسعا منذ قرون، في كل البلاد العربية، ولعل أكبر دليل على حجم انتشارها، ما نلاحظه اليوم من توافرها في السوق المغربية بشكل كبير وفي طبعات مختلفة، صادرة عن دور نشر مغربية واردنية ومصرية وغيرها
ويعتبر ابوالعباس البوني (المتوفى في القاهرة حوالي 1225) من اوائل المتصوفة الذين قاموا بجمع وتصنيف السحر الرسمي، الذي كان محصورا وسط حلقات الفقهاء السحرة في مغرب العصور الوسطى، ونشره في مصنفات، اشهرها (منبع اول الحكمة) و(شمس المعارف الكبرى).
وحسب البوني فإن عمله ذاك لم يمر دون أن يجلب عليه مآخذ زملائه في الحرفة الذين عابوا عليه، اظهاره لبديع الحكم لكل من هب ودب، حيث يقول في مقدمة (منبع أصول الحكمة): «,,, وقد لامني على ذلك كثير من اخواني فأجبتهم بأن النصح لاخوان الحكمة واجب، وترك الواجب مذموم,,,»بيد أن البوني يؤكد - مع ذلك - التزامه بحرص السحر الرسمي على الابقاء على مضامين المصنفات التي وضعها، وفي الاطار الضيق للمتخصصين حيث يهدد قارئها بألا يبوح بالاسرار التي يقرأها، لاي كان، تحت طائلة بطلان المفعول السحري المنتظر منها, فيقول في مقدمة (شمس المعارف الكبرى): حرام على من وقع كتابي هذا في يده أن يبديه لغير اهله، او يبوح به في غير محله، فإنه ان فعل ذلك، حرمه الله تعالى منافعه، ومنعت عنه فوائده وبركاته,,».
مدارس السحرة
لا يكفي الاطلاع على مصنفات السحر المتوافرة ليصبح الانسان ساحرا، فالسحر في عرف ممارسيه، له قواعد وشروط معقدة تجعله غير متاح للعامة الا من خلال المتخصصين، ومهما تكشف كتب السحر المتداولة من اسرار تلك القواعد، فإن ما خفي منها يظل اهم واعظم في نظرهم.
إن الساحر لا يولد ساحرا، ولكي يصبح الاسنان العادي ساحرا (او ساحرة)، يكون امامه مسار شاق عليه ان يقطعه في اماكن سرية، قبل أن يحظى باعتراف معلميه السحرة وتتويجهم له ساحرا معالجا, ويتداول في اوساط العامة ان تلك الاماكن توجد بمنطقة سوس في الجنوب المغربي، وان المتخرج من مدارس السحر تلك يتوفر على مهارات في مجالات تخصصه، تجعله يتفوق على كل زملائه الاخرين.

ويبرز ذلك طبعا، المقابل الباهظ الذي يطلبه «الفقيه السوسي» مقابل خدماته، وقد قرأنا في بريد القراء رسالة نشرتها جريدة وطنية بعثت بها اليها شابة، يبدو انها راكمت من خيبات واوهام البحث عن عريس ظل يهرب دائما منها، في اللحظة التي تطمئن اليه، اعترافها بأنها دفعت مبلغ مليوني سنتيم مغربي، كي يضع لها فقيهاً سوسياً (او من يزعم انه كذلك) في خاتم يدها، طلسما لابطال السحر المعمول لها.
ويقدم الدكتور اخميس تصورا واضح المعالم عن مسار التكوين الشاق الذي يجتازه الساحر المتعلم، في مدارس تعلم السحر السرية في سوس، على النحو التالي:
- ينسحب الفقيه الراغب في أن يصبح معالجا (بتعبير د- اخميس: Guerisseur) من الحياة العادية لينغمس في حياة أخرى مسكونة بالارواح، وهناك يختار الجني «الخديم» (الخادم) الذي لن يفارقه بعد ذلك، ابدا, ولكي يرتبط بالجني لا ينبغي على الفقيه ان يرى أحدا طيلة مئة يوم ويوم، ولا أن يحلق وجهه أو يغتسل, ولا يأكل طيلة تلك المدة سوى التمر والحليب وخبز الشعير المعجون بدون خميرة, وعليه أن يحرق عند كل مطلع ومغرب شمس خليطا من الملح والحرمل والشب وجلد الثعبان.
وفي متم اليوم الواحد بعد المئة، ينظر الفقيه في معزله الى مرآة على ضوء شمعة، فيرى بدل انعكاس صورة وجهه فيها، صورة الجني «الخديم», ويكون ذلك تتويجا له كفقيه معالج، وايذانا له بالبدء في تدريب ميداني يتمرس خلاله على العيش مع شيطانه، الذي لن يتكلم معه الا لغة خاصة تتضمن صيغا لغزية، ويختتم الساحر تدريبه بدراسة العلامات التي سيستعملها في اعداد الطلاسم، خلال حياته المهنية المستقبلية.
إن هذا المسار التكويني الغرائبي، الذي ما زال يمارس حتى اللحظة الراهنة في بعض المدارس السرية بسوس، يشبه في بعض تفاصيله طريقة أخرى لتسخير الجن في خدمة الساحر، رواها أحد السحرة المغاربة للطبيب الفرنسي موشون، فضمنها هذا الاخير ملاحظاته حول السحر في مغرب بدايات القرن الماضي.
فلكي يصبح المرء ساحرا (او «طالباً» بتعبير موشون) يطلب من الشياطين ان يبلغوا رغبته الى السلطان الاكبر (للجن)، ثم ينسحب الى أحد الاودية بعيدا عن المدينة، حاملا معه مرآة اطارها من خشب الابنوس, يأخذ طالب السحر تلك المرآة في يده بينما يتمتم بأدعية والبخور يتصاعد من موقد مجاور، ويقوم بتغيير ملابسه على رأس كل ساعة زمن، ويكتفي بأكل الخبز الذي تم اعداده من دون ملح وبقليل من الخميرة، مع التين المجفف والزبيب.
وفي غضون ايام قليلة، يظهر «الخديم» في المرآة، فيخاطب الساحر قائلا: «لقد أزعجت كل الدار السفلي» (أي عالم الجن)، ثم يردف ناصحا اياه: «سوف ترى مرور الجيوش السبعة للسلطان سلطان الجن، طبعا وهي مكونة من الافاعي والعقارب والحيوانات المتوحشة,, فلا تخف وحاذر ان ترد على من يكلمك منهم».

الكتائب السبع
وبعد أن ينسحب «الخديم» يشاهد الساحر الكتائب السبع، يليها السلطان فوق جواده، فيكون عليه ان يمسك بالدابة التي يركبها سلطان الجن من لجامها ثم يقدم ملتمسه, وفي الغالب يمنح السلطان للساحر خديما يكون عليه ان يقيم معه اواصر علاقة حميمة ستجمعهما للابد, ولهذه الغاية، يوقد البخور فيتصاعد عمود من الدخان، يتحول الى قطعة خشب تتمدد فشيئا لتتحول من جديد وتصبح ثعبانا، لا يلبث ان يتحول بدوره مرات عدة، ليأخذ اشكالا مختلفة، فيصبح في النهاية شابا جميل الخلقة، يحمل في يده سكينا دامية: انه الخديم.
يتبادل السحر وخديمه (خادمه الجني) التحية من خلال التصافح بظاهر يديهما، ثم يتملك كل منهما الاخر، ويأخذ الساحر المكرس علبة صغيرة يقدمها للشاب الذي يشرع في تقصير قامته الى أن يتمكن من دخولها، فيغلقها عليه الساحر، ويحملها معه، بعد ذلك باستمرار.
اما اذا كانت المرأة هي التي تريد ان تصبح ساحرة، فإن عليها ان تعهر وتمارس أقذر الطقوس، الى أن يقتنع «خديم» بالارتباط بها، وعدم مفارقتها طيلة حياتها, تبدأ المرأة بعرض نفسها على أي كان، خلال فترة الحيض (انسان غير مسلم، او حتى حيوان)، وتستحم كل صباح ببولها لتصبح غير طاهرة مطلقا، ثم توقد للشيطان الذي سيصبح عشيقها وخديمها الابخرة، الى أن يظهر لها فتمنحه نفسها ليفعل بها ما يشاء، كما ستفعل هي به ما تشاء!
ولن ترى تلك الساحرة الجنة أبدا، بل ستظل مع الشياطين بعد وفاتها.
لماذا يعتبر التعهر وفقدان العفة والطهارة شروطا لازمة، في معتقد المغاربة من اجل قبول المرأة في نادي السحرة؟ بينما الرجل يكفيه الالتماس ومرآة الابنوس والنظافة (تغيير الملابس كل ساعة) والاكل الخفيف؟ يبدو ان السر كامن في النظرة الدونية للمرأة في مجتمعنا، بشكل عام، وللنظرة الدونية للمرأة التي تتعاطى السحر، بشكل عام في مجتمعنا, ان السحر في المغرب ينسب الى الاقليات الدينية (اليهود، على الخصوص,,,) والعرفية (الزنوج، اهل سوس,,,) او اصحاب المهن الوضيعة، التي تصنف المومس ضمنها, فالساحرة هي بالضرورة مومس، والمومس تتعاطى السحر, ومن هنا يصير على كل امرأة تنوي ان تصبح ساحرة، أن تبدأ بفقدان عفتها وطهارتها الجسدية والمعنوية، حتى تمتلك باغراء قدراتها الشيطانية شيطانا مثلها، فيرتبط بها بينما الرجل الذي يصبح ساحرا يضع «خديمه» بكل اطمئنان في علبة، دون ان يفقد من كرامته شيئا!
خوارق السحرة
على أبوابهم علامات تدل عليهم، رايات بيضاء مخضبة بالحناء او خضراء, واكثرهم تواضعا يتخذون لهم في الاسواق القروية مجالس منزوية، او دكاكين ضيقة في الحواضر, اما اكثرهم «اناقة» فلهم مكاتب للزيارة في شقق راقية وبطاقات للزيارة تحمل ارقام الفاكس والهواتف القارة المحمولة.
السحرة اصناف ومستويات وتخصصات، منهم من يقنع بفتات الدراهم في مقابل خدمة لا تكلفه اكثر من خربشات على ورق اصفر او ابيض أو ازرق, واخرون تصل «أتعاب الزيارة» الواحدة عندهم الى الاف الدراهم، من دون احتساب الهدايا والعطايا، حيث يتحقق المطلوب.
إن قوة الساحر تكمن في مهارته، التي يكتسبها مع التجربة، في اقناع الزبائن بقدرته على التصرف في مصائرهم وفق ما يشتهون, وهو بذلك معالج نفساني, من حيث لا يعلم: يقرأ في نفسية مرضاه جيدا نقط ضعفهم ويمارس عليهم تقنية «التفريغ»,, والساحر هو ايضا واساس في احايين كثيرة مخادع كبير يتقن الساحر استغفال الزبائن فيزرع في قاعة انتظاره زبائن وهميين لاستنطاقهم وترويج فتوحاته وخوارقه بينهم,
ليس الأميون وحدهم!
إن زبائن السحرة هم مزيج غير متجانس من المرضى الحقيقيين ومرضى الوهم منهم الرجل والمرأة، الفقير والغني، الأمي والمتعلم، فليس الاعتقاد في السحر حكرا على الأميين، واصحاب العقول التي لم تنورها شموس العلم, على عكس ما تشي به المظاهر، بل هو يشمل كذلك كثيرا من المثقفين (الذين) يعمدون الى انكار وجود اي اعتقاد لديهم في السحر خوفا من ان يتهموا بالجهل او التخلف، ولكن اذا نحن تتبعنا سلوك الواحد منهم، وقمنا بتحليل الوان سلوكه، لوجدنا ان قطاعا كبيرا من سلوكه مشوب بالسحر او الخوف من السحر».
وتفسر الباحثة المصرية سامية حسن الساعاتي هذه الظاهرة المفارقة بأسبقية التنشئة الاجتماعية واهميتها الحاسمة في توجيه حياة الفرد، قبل تحصيله للمعرفة العلمية لاحقا، خلال مراحل تعليمه, تقول الباحثة : إن الشخص الذي حصل على قدر عال من التعليم يلجأ عندما يقع تحت وطأة الظروف القاسية، مثل المعاناة من مرض عضال تعجز اساليب العلم عن علاجه، الى الاستعانة بهذه الاساليب السحرية والخرافية، لانه رغم تعلمه الراقي، فإنه قد تعرض في تربيته الاولى للمؤثرات السحرية والخرافية فالتنشئة الاجتماعية هنا دورها اخطر من دور التعليم».

إذا نحن تأملنا مجالات عمل السحرة، فإننا سنجدها تمتد لتشمل كل ما يرتبط بحاجيات الانسان الاساسية وحتى الكمالية,, كل ما يخطر اولا ببال الانسان وارد في فهارسهم المكتوبة او الشوفية, واذا كان السحر قديما قدم الانسان، فكم هو عدد الوصفات التي اندثرت؟ وما معدل عمر وصفة سحرية؟ جيل، جيلان؟ قرن من الزمان؟ لا احد يعلم بالضبط.
ومن الكتابات العميقة التي خلفها علماء الاجتماع والانتربولوجيا الفرنسيون منذ قرن، يبدو ان العديد من الوصفات السحرية التي عرفها أسلافنا، لا تزال متداولة حتى اللحظة الراهنة، مع تعديلات طفيفة مست بعض التفاصيل الثانوية، بينما وصفات اخرى قرأنا عنها ولم نعد نسمع لها ذكرا (دون أن يعني ذلك أنها اندثرت), ونتحدث هنا طبعا، عن السحر الشعبي الذي تمنحه حيوية المجتمع القدرة على التجدد باستمرار ,اما السحر الرسمي الذي توقف عن التجدد واعادة انتاج «نشء جديد» بتعبير الباحث الفولكلوري المصري محمد الجوهري - ليكتسب لنفسه صفة العلم المطلق، فإن وصفاته مستمرة في التداول على نحو ما أسس له الآباء المؤسسون, وسيكون صعبا بكل تأكيد، إن لم نقل مستحيلا، حصر جميع الاغراض التي يزعم الساحر بقدرته على تحقيقها، لذلك نقترح على القارئ هذه اللائحة غير المكتملة، والتي حاولنا فيها تجميع كوكتيل طريف من اغرب الاغراض، اعتمادا على مصادر شفوية واخرى مكتوبة، ونقدمها مرتبة حسب التصنيف الشهير: السحر الابيض والسحر الاسود.
في السحر الابيض
توجد وصفات سحرية لتحقيق الاغراض التالية: لإزالة الهم والغم - لمنع الوقوع في المعاصي وشرب الخمر - إذا أردت نسف تل قديم - أن تختفي عن أعين الاعداء والظلمة والحساد - أن تختفي أو تمشي على الماء أو تطير في الهواء - اذا اردت نقل الصخور - لتحقيق السعادة الابدية: للوقاية من العين - لحفظ الاشياء التي يخاف عليها من العين - لجلب الخطاب - للحفظ من التعب واللصوص والحريق- لاصلاح الفاسد من الناس والاشياء - لجلب الزبون ونجاح التجارة - لحفظ السفينة من الغرق - للمساعدة على الحفظ والفهم - لازالة البلادة وعلاج بليد الذهن الذي ينسى ما يلقى اليه - لازالة الكسل والعياء - لزوال النسيان - لاظهار شيء ضائع او مسروق واعادته - لاظهار اسم السارق - لعلاج لسعة الحية والعقرب والكلب - لعلاج عضة الكلب المكلوب (اي المصاب بداء السعار) - لطرد البراغيث والبق والخنافس والعناكب والحيات - لذهاب النمل والناموس - لجلب الرجل للمرأة - لجلب المرأة للرجل - لجلب الغائب - لشفاء العاقر - لتسهيل الولادة - للحصول على مواليد ذكور - للحصول على مواليد اناث - لزوال نزيف المرأة - لعلاج الطاعون - لسداد الديون - لتيسير الارزاق - للجمع بين المتخاصمين - لرد الثيب بكرا -اي لارجاع العذرية الى من فقدتها، من دون جراحة) - للحصول على القوة لحمل الاثقال - لعلاج أبو تليس (الذي يصيب الانسان حتى لا يبصر بالليل شيئا) -لعلاج الغيرة للرجل والمرأة - لخلاصة المسجون - لجلب العز الدائم - لمنع الوحوش والطير عن الزرع - لنيل القبول والسعادة - لنيل المناصب والترقي - للتغلب على الاعداء - لزيادة لذة الجماع - لتهييج المرأة - لجلب الحمام الى البرج,,, الخ.
في السحر الأسود
هناك وصفات : لتمشية الجماد - لعقد الالسنة - لعقد لسان الزوج - لعقد لسان الكلب - لعقد المرأة كي لا يطأها (يجامعها) غيرك - لهزم عدو - لقتل عدو - لقهر الاعداء واهلاكهم - لتمزيق شمل العدو - لاهلاك ظالم - لاخضاع الجبابرة - لتسليط جني على ظالم - لاخضاع الحاكم الجبار وتسخيره - لايقاف المراكب والعساكر - لرجم دار العدو - لتخريب دار العدو واخراجه منها - لاشعال النار في دار ظالم - لتعطيل سفن الاعداء - لتوقيف المركب وجعله لا يسافر أو لاعادته من طريقه - لالحاق الامراض المختلفة بالعدو - لالحاق العقم برجل او بامرأة - لعقد ذكر الرجل - لافراغ المكتري غير المرغوب فيه - لاخلاء برج الحمام - لعسر الولادة - لترقيد الجنين في رحم امرأة لسنوات - لانطاق من أردت وهو نائم - لاحضار ارواح الموتى - للتصرف بطوائف الجن وملوكها - لابطال موانع الكنوز - لتعطيل البنت عن الزواج - لاسقاط الشعر - لاسقاط الاسنان - لسليط سلسل البول على عدو - لمنع عدو من التبول - لتسليط الارق الدائم او النوم على عدو,,, الخ

السحر الدفاعي.. ملاذ العوانس والعشاق والباحثات عن الانجاب (د مصطفى واعراب)

السحر، حسب مجمع اللغة العربية هو «كل أمر يخفى سببه ويتخيل على غير حقيقته ويجري مجرى التمويه والخداع»، أما في لسان العرب، فإن «أصل السحر صرف الشيء عن حقيقته».
ويفرد عبدالرحمن بن خلدون في مقدمته الشهيرة فصلاً للحديث عن «علوم السحر والطلسمات التي يعرفها بأنها «علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر، إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية، والأول هو السحر والثاني هو الطلسمات».

والملاحظ أن مصطلح الطلسم، ذا الأصل اليوناني، ويعني «كل ما هو غامض ومبهم من الألغاز والأحاجي»، قد فقد في اللغة العربية المعاصرة أهميته، بعد أن كان رائجا على عهد ابن خلدون وذلك لفائدة مصطلح السحر الذي اتسع استعماله، بالمقابل، ليستأثر بكل المعاني المرتبطة بالممارسات الخفية, وبخلاف لغة الضاد، تعرف اللغات اللاتينية، ومنها الفرنسية، غنى ملحوظا من حيث المصطلحات المرتبطة بالموضوع نذكر منها مثلا: La démonologie le stanisme, la sorcellerie, la magie عــلى أن المصطلحين الأول والثاني يعتبران الأكثر تداولا في لغة ديكارت.
وحسب المعجم الفرنسي لعلم الاجتماع، فإن La magie، هي عملية تستهدف العمل ضد قوانين الطبيعة بواسطة وسائل خفية تفترض وجود قوى خارقة وحالة من العالم», بينما يعرف المعجم نفسه La sorcellerie بأنها هي «القدرة على إيذاء الآخرين من خلال عمل روحاني».
ومن كل هذه التجديدات الاصطلاحية، نستطيع القول إن السحر هو ممارسة تستخدم عناصر خفية أو مادية بهدف التأثير في الواقع، من أجل بلوغ غرض محدد وتحدد القوى المؤثرة وكذا الغاية (أو الغايات) المرجوة من العملية السحرية، نوع الممارسة (شريرة أم نافعة), ويقودنا هذا إلى الحديث عن التصنيفات المتخصصة لأنواع السحر.
أنواع السحر
يقسم موشون السحر في المغرب، حسب ملاحظاته، إلى قسمين: سحر دفاعي وسحر عدواني: ويرتبط كل قسم منهما بطبيعة الأغراض المرجوة، وبموقع كوكب القمر الذي يلعب دورا حاسما في إنجاح أو إفشال العملية السحرية.
فالسحر الدفاعي لا ينجح إلا خلال النصف الثاني من الشهر القمري، ويلجأ إليه كل المصابين بالعين الشريرة والملاحقين بلعنة سوء الحظ، كالنساء اللواتي يجهضن (دون رغبة)، الفتيات اللواتي لم يتمكن من الزواج، والعشاق المهجورون، الرجال الذين لا تنجح أعمالهم، إلخ.
أما السحر العدواني، فيختص بأغراض الحب والهجر والمصائب والموت، التي لا تنجح إلا خلال النصف الثاني من الشهر القمري، لأنه- يقول موشون- في أعمال السحر التي تستهدف الانتقام والحقد، يقال: «كيف ما غاب القمر، يغيب فلان يغيب» أي (مثلما غاب القمر، أريد لفلان أن يغيب).
والحقيقة أن التصنيفات الثنائية للسحر طغت على غيرها من التصنيفات الأخرى الكثيرة، التي اجتهد في وضعها العلماء، وذلك على الرغم من صعوبة تصنيف كل الممارسات السحرية الموجودة لدى شعوب الأرض، لصعوبة حصرها جميعا, ومن أشهر تلك التصنيفات الثنائية، نذكر: السحر الأبيض والسحر الأسود- سحر العامة وسحر النخبة- السحر الإيجابي والسحر السلبي- السحر التشاكلي والسحر الاتصالي، إلخ, وسنكتفي هنا باستعراض خاصيات أهم صنفين، سيتكرر ذكرهما كثيرا في المقالات الموالية، وهما السحر الأبيض والسحر الأسود ثم السحر التشاكلي والسحر الاتصالي.
يعتبر تصنيف السحر إلى أبيض وأسود أشهر التصنيفات الثنائية على الإطلاق, فالسحر الأبيض يلبي أغراضا تعود على الفرد والمجتمع بالنفع، دون أن تلحق الأذى بأي شخص أو تتعارض مع أعراف وقوانين المجتمع, «ويجمع العلماء على أن أهم نوعين من السحر الابيض، في كل أنحاء العالم هما السحر الخاص بالتنبؤ بالمستقبل أو التنبؤ بالغيب، والسحر الخاص بالعلاج أو التداوي والتطبيب».
أما السحر الأسود: فهو لكي يحقق مصلحة شخصية، يلحق الأذى بالآخرين، ومن أهم أشكاله سحر الانتقام، وهذا النوع هو الذي أطلق عليه موشون السحر العدواني.
ويعتبر السحر التشاكلي والسحر الاتصالي فرعين من السحر التعاطفي القائم على قانون التعاطف، «وهما يفترضان إمكانية تأثير الأشياء في بعضها عن طريق نوع من التعاطف الخفي» حسب الباحثة المصرية الدكتورة سامية الساعاتي أستاذة علم الاجتماع في كلية الآداب- جامعة عين شمس.

فبالنسبة للسحر التشاكلي (أو سحر المحاكاة)، يقوم على مبدأ التشابه أي «الشبيه ينتج الشبيه», ومن أبرز الأمثلة عنه، ما يقوم به كثير من الناس من محاولة «الحاق الأذى أو الدمار بأعدائهم عن طريق إيذاء صورهم أو تدميرها».
بينما السحر الاتصالي «يقوم على فكرة أن الأشياء المتصلة- حتى بعد أن ينفصل تماما أحدها عن الآخر- تظل في علاقة تعاطف، بحيث ان ما يطرأ على أحدها يؤثر على الآخر بالضرورة تأثيرا مباشرا», وتقدم سامية الساعاتي مثالا عن هذا النوع من السحر، وهو تلك الخرافة الشائعة في العالم كله، والتي تجعل الإنسان يحاذر من وقوع أجزاء من جسمه كالشعر والأظافر والمشيمة وحبل السرة وغيرها، في يد إنسان آخر قد يستغلها في أعمال سحرية ضده، «بحيث تجعله خاضعا لارادته مهما بعدت المسافة بينهما».
حقيقة السحر
في تاريخ الفكر الإسلامي، تميز المعتزلة بإنكارهم لوجود السحر، بل وذهبوا إلى حد تكفير كل من يعتقد في وجوده, ويعتبر موقفهم الرافض هذا مناقضا لما نص عليه القرآن الكريم من وجود للسحر، ولما نص عليه الشرع الإسلامي من وجوب قتل المتعاطين له، لما فيه من شرك بالله، ومضار للمجتمع.
ويؤكد العلامة ابن خلدون، من جهته، ان «وجود السحر لا مرية (لا شك) فيه بين العقلاء», لكنه يميز في ذلك بين الساحر وصاحب المعجزة, ويضع الفرق بينهما «فرق ما بين الخير والشر في نهاية الطرفين، فالساحر لا يصدر منه الخير ولا يستعمل فيه أسباب الشر، وكأنهما على طرفي النقيض».
ومن أغرب الطرائف التي يحفل بها سجل خوارق السحرة، ما ذكره العلامة المغاربي عن صنف منهم، كان معروفا في عهده بالمغرب يسمون «البعاجين» وكانوا يمارسون الابتزاز على الفلاحين تحت تهديد السحر.
ويؤكد ابن خلدون أنه شاهد من هؤلاء «المنتحلين للسحر وعمله من يشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج، فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الأرض (,,,) يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها وهم مشترون بذلك في الغاية خوفا على أنفسهم من الحكام,,,», ويشدد العلامة في التأكيد على أنه لقي «منهم جماعة وشاهدت من أفعالهم هذه بذلك، وأخبروني أن لهم وجهة ورياضة خاصة بدعوات كفرية وإشراك الروحانيات والجن والكواكب,,,», ونستغرب أن يصدر مثل هذا التأكيد عن مفكر كان متقدما فكريا على عصره بقرون، إذ كيف يحصل «البعج» وتتدلى أمعاء الغنم لمجرد إشارة من يد ساحر؟
وعكس ابن خلدون، يبدو الحسن الوزان (ليون الإفريقي) أكثر ادراكا لحقائق بعض السحرة، خصوصا منهم أولئك الذين يمارسون صرع الجن, فبعد أن يعرض في (وصف افريقيا) للكثير من ممارسات السحرة التي كانت منتشرة على نطاق واسع في مغرب العصور الوسطى، يستنتج الرحالة المغربي أن «السحرة يعتبرون أنفسهم قادرين تماما على انقاذ من اعتراهم مس من الشيطان، لسبب واحد هو أنهم يوفقون أحيانا في ذلك, واذا لم يوفقوا زعموا أن الشيطان كافر أو أن الأمر يتعلق بروح سماوية,,,», فنجاح مهمة الساحر، في فهم ليون الافريقي، لا يعدو أن يكون محض صدفة، واذا لم يتحقق زعمه، لجأ الساحر إلى مبررات تتخفى خلف الدين تجنبا للإحراج.
أما العلوم الإنسانية المعاصرة، فإنها تربط السحر بالأساطير وبالماضي السحيق وعهود الآلهة والأبطال، وتربطه كذلك بجذور الانسان الأولى وبدايات الثقافة القبلية.
ولذلك انصبت اهتمامات علماء الاجتماع والانثربولوجيا وعلماء النفس منذ القرن التاسع عشر على دراسة نشوء وتطور المعتقدات السحرية في المجتمعات البدائية واهتم بعض الأوروبيين منهم بمجتمعات الشمال الافريقي، إما خدمة للحملات الاستعمارية أو بدافع القناعة العلمية, ومن أبرزهم نذكر عالم الاجتماع الفنلندي وسترمارك، والفرنسيين: مارسيل موس، إدموند دوتيه، ج هربر، لاوست، وأيضا الطبيب إميل موشون الذي شكل اغتياله في مراكش في بداية القرن العشرين أحد المبررات الفرنسية المعلنة لاستعمار المغرب, وهناك أيضا إميل درمنغن، وغيرهم, إن البحث العلمي في المغرب مدين لهؤلاء، رغم اختلاف منطلقاتهم ومقارباتهم بالكثير.
بالنسبة لعالمي الاجتماعي والانثربولوجيا أوبير وموس، يشكل السحر «مجالا للرغبة» فهو قبل كل شيء، وفي الأصل كان رد فعل جماعي أنتجه خيال العشيرة, فالرغبات التي حددت نشوء السحر كانت قبل كل شيء رغبات جماعية: رغبة في الحصول على طرائد أو على المطر، أو على حرارة الشمس، إلخ.
ولا يخفي إدموند دوتيه، وهو من أبرز دارسي السحر في المجتمعات المغاربية، تأثره بأفكار أوبير وموس، فيخلص من دراسته العميقة لعلاقة السحر بالدين في شمال افريقيا، إلى ان «السحر هو مجرد توضيع objectivation للرغبة (المراد تحقيقها)، يقترن بالرغبة في إثارة هذه الظاهرة الطبيعية أو تلك».
وسنرى لاحقا في سياق المقالات الموالية، ان أغلب وصفات السحر في المغرب تقوم على طقوس، هي في الحقيقة تقليد للغايات المراد بلوغها,,, كأن يذهب الشخص الذي ينم فيه الآخرون إلى «العيساوي» ويطلب منه أن يجز أمامه رأس أفعى حية, وفي الوقت الذي يتساقط الرأس، يصرخ: «كيف ما تقطع رأس الأفعى، تنقطع رؤوس العديان» (أي: مثلما سقطت رأس الأفعى، لتقطع رؤوس الأعداء) ثم يحمل رأس الأفعى إلى منزله، ليضع في مكان كل عين منه خرزة، وفي فمها الفلفل الأحمر الحار (السودانية)، وهو يقول: «كنسد عيني العديان» و«كنسد فم العديان» (اغلق عيون الأعداء) و(اغلق افواه الأعداء) إلى آخر الوصفة, إن الأفعى في هذا المثال، هي نموذج يشخص الشر وقطع رأسها ينقل الرغبة في قطع رؤوس الأعداء النمامين (الفعلية أو الرمزية) ويشخصها, وكذلك الأمر بالنسبة لإغلاق عينيها وفمها.
وإذا نحن تأملنا أشكال الممارسات السحرية التي تنتشر في مجتمعنا، وجدنا أنها تنقسم بشكل عام، إلى نوعين رئىسيين هما: السحر العلاجي وقراءة الطالع, وتدخل ضمن النوع الأول أغلب الممارسات السحرية، لاعتقاد العامة في أن كل ما يلحق بها من شر، سواء كان مرضا عضويا (عقم، حمى,,,) أو نفسيا (جنون، صرع، إلخ,,,) كلها من أعمال السحر العدواني، وليست وليدة ظروف ذاتية أو اجتماعية معنوية عادية.
وفي تفسير ذلك، يرى (وليام هاولز) أن الأهمية التي يحتلها السحر العلاجي وقراءة الطالع تعود إلى أن المرض والشك هما دائما مصدر أشد وأقسى أسباب القلق الشخصي والاجتماعي», وهذا القلق هو الذي يفسر الكثرة العددية لـ «الشوافات» (العرافات قارئات الغيب) والفقهاء المعالجين، من حولنا، في المغرب.
لكن، إذا كانت «التمثلات السحرية, بتعبير عالم الاجتماع والانثربولوجيا الفرنسي مارسيل موس تشكل مجالات لتحقيق الرغبات، ظهرت تحت ضغط حاجة مجموعة من الناس اليها» فكيف تستطيع طقوس ممسرحة، يكررها مئات آلاف من الأشخاص، في شروط معينة، ان «تحقق» الغايات المرجوة منها؟هنا تتعدد المقاربات وتتشعب إلى نقاشات بلا نهاية، لكن يمكن اختصار الجواب هنا في تفسير ميرسيا إلياد: «إن التكرار البسيط، بمساعدة الخيال النشيط، لبعض الرموز الدينية (,,,) يترجم بتحسن نفساني، قد يفضي في نهاية المطاف إلى العلاج».
شروط الممارسة السحرية
تتهيكل العملية السحرية، حسب ليفي ستراوس، حول اعتقاد ثلاثي:
1- الاعتقاد في سند ايديولوجي للمجموعة التي ينتمي اليها الفاعل.
2- اعتقاد الفاعل في نجاعة الطقس الممارس.
3- اعتماد الساحر في نجاعة تقنيات.
(بالنسبة للسند الايديولوجي، قد يكون ضريح ولي، أو يكون هو الساحر نفسه, فالسحر لا يعتبر سحرا إلا بتوافر شرط الاعتقاد فيه من قبل الممارس، والاعتقاد في نجاعة الطقوس التي يليها، أي حين يعتقد في نجاعة وصدق الممارسة السحرية كل من الساحر والزبون.
وهذا الاعتقاد هو الذي يسميه المغاربة «النية» أي الاعتقاد الصادق في أن حركة ما، أو كلمة ما، أو مادة معدنية، أو نباتية أو حيوانية، إذا استعملت بطريقة ما، تنتج تأثيرا سحريا معينا.
إن «النية» هي تلك الارادة المضمرة أو المعبر عنها في كسب مصلحة أو تفادي شر, ويتم التعبير عنها من خلال ممارسة طقس سحري، من دون أن يطرح لا الساحر ولا زبونه السؤال المعتقد والمحرج: كيف ولماذا نفعل هذا لكي يحصل كذا؟ وهي بهذا المعنى شرط أساسي لنجاح الممارسة السحرية في تحقيق الهدف، حيث إن الممارس إذا لم يقم بالطقس السحري «من نيته» فإن ذلك يؤدي إلى بطلان مفعول العملية.
ويلخص ذلك، القول الدارج الذي يكرره السحرة، مثل لازمة «النية بالنية والحاجة مقضية» أي أن النية المتبادلة بين الساحر والزبون شرط لقضاء الغرض المطلوب.
إن الساحر ليس بالضرورة محتالا يمارس ضحكه على ذقون زبائنه المغفلين، فحسب دراسات لبعض مؤسسي انثربولوجيا المعتقدات، «حتى عندما لا يكون الساحر معتقدا في سحره، فإنه يظنه ممكنا: حيث يمتزج غالبا، قليل من التظاهر (بالاعتقاد) مع الصدق، كما يحدث دائما في الظواهر المرتبطة بالتنويم المغناطيسي لكن بصفة عامة، ليس ثمة كذب، فاعتقاد الجميع (في صدق السحر) يفرض نفسه عليه (على الساحر).
وبالإضافة إلى شرط توافر النية، هناك شرط السرية, فإذا كانت المعتقدات السحرية جماعية، فإن ممارستها تتم بشكل فردي، مادام السحر في حقيقته شخصنة لرغبة فردية يبتغي الممارس حصولها من خلال الطقس السحري, وممارسته في الخفاء هي شرط أساسي لصحته، وحسب ملاحظات الباحثين (أوبير) و(موس) فإنه «لكي يكون لسحر أثر، يجب ممارسته في سرية».
وهناك شرط آخر، يتمثل في وجوب اختيار الزمان المناسب لكل عملية سحرية, يقول البوني في «الأصول والضوابط المحكمة: «واعلم ان الكواكب السيارة السبعة (وهي في مصنفات السحر: زجل، المشتري، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد والقمر) لكل واحد منها وفق منسوب إليه (,,,) وفق تأثير يظهر منه بحسب تأثير الكوكب,,,» فالكواكب السيارة حسب السحرة، تؤثر في المخلوقات ويختلف نوع ودرجة تأثير كل كوكب حسب موقعه في الفضاء, ولذلك يترصد السحرة المحترفون حلول «منزلة» كوكب حسب جدول «المنازل» المعروف لديهم بدقة متناهية، من أجل القيام بالعمل السحري الذي يتوافق مع تأثير الكوكب, فإذا أخذنا القمر مثلا، نجد أن له منزلتين تناسب كل واحدة منهما نوعا من الممارسات السحرية: فالنصف الأول من الشهر القمري يناسب أعمال السحر خاصة بالخير (السحر الابيض)، بينما النصف الثاني منه مناسب لأعمال الشر (السحر الاسود),,, بل إن التأثير السحري يختلف حسب أوقات اليوم الواحد، فهناك سحر يصلح للنهار، آخر لليل, حيث ينسب البوني، في هذا الصدد، إلى «أستاذه الفاضل أرسطو طاليس» قوله إنه «وضع في يوم وليلة أربعة وعشرين عملا (سحريا) متضادة أجابت روحانيتها في الوقت,,,» وبالاضافة إلى ضرورة اختيار الوقت المناسب، يشترط في بعض الطقوس السحرية أن تتم في مكان معين: الحمام البلدي، أو البحر، أو المقبرة، أو غيرها,,, كما يعتبر احترام تراتبية الطقوس شرطا أساسيا، إذ ينجم عن عدم احترام عناصر الطقس السحري أو الإخلال بها، بطلان العمل السحري بأكمله، أو حدوث تأثير عكسي.
ونصل أخيرا إلى العناصر الأهم في العملية, أي تلك المواد التي تدخل في إعداد الوصفات السحرية, ويمكن تمييزها هنا بحسب أصولها إلى:
- مواد حيوانية: حشرات، جلود وقرون واطراف بعض الحيوانات وكذا دماؤها، إلخ.
- مواد معدنية: بخور، صفائح فضة، رصاص، حديد، نحاس.
- مواد نباتية: بخور، جذور ولحاف بعض الاشجار، أزهار بعض النباتات، إلخ.
- مستحضرات خاصة، ماء غسيل الميت، دم الإنسان (الحيض، دم المغدور) الثوب المستعمل بعد الجماع، شعر وأظافر الشخص المراد سحره، إلخ.
ومن أجل انتاج عدد غير محدد من الوصفات، والطقوس السحرية، التي تصلح لتحقيق كل ما يخطر ولا يخطر على البال من الأغراض، يتم التأليف بين هذه العناصر والشروط وفق قواعد معقدة وغامضة.
الطقس والوصفة
يعرف علم الاجتماع الطقس بأنه «مجموعة من الأفعال المتكررة التي تكون غالبا احتفالية ومن النوع الشفوي، الإيماني والوضعي بشحنة رمزية قوية، متأسسة على الاعتقاد في القوة المؤثرة للأشخاص أو للقوى المقدسة التي يحاول الرجل الذي يقوم بالطقس الاتصال بها، لكي يحصل على تأثير محدد.
تحليليا، ينبغي اعتبار الطقس:
1- كمتوالية زمنية من الأفعال.
2- كمجموعة من الأدوار التي تمسرح في نوع من المسرحية المؤسسة.
3- كنسق غائي للقيم.
4- كوسائل رمزية مرتبة للأهداف المراد تحقيقها.
5- كنسق للتواصل.
أما الوصفة، فتعني تفصيل المواد والظروف والطقوس التي تدخل في تحضير العملية السحرية، وكنموذج لنتأمل الوصفة التالية التي تستعمل لجلب شخص مطلوب، وهي للبوني:
من أخذ ثلاث ورقات وكتب على كل منها الأسماء السبعة للقمر، وقرأها عليها ثلاثا وستين مرة، وهو يبخر بكندر وجاوي وكسبرة، ثم علق الأولى في الهواء وحمل الثانية على رأسه وذوب الثالثة في ماء وعجن به حناء خضب بها يده، فما تذهب هذه الحناء من يده إلا ومطلوبه حاضر عنده.
إن هذه الوصفة تتضمن عددا من العناصر والطقوس التي يحدث تداخل تأثيراتها السحرية- حسب المعتقد- في تحقيق الغرض المطلوب, فهناك طقوس يدوية كتابة الأسماء على الورقات- تعليقها في الهواء وعلى الرأس- إعداد الحناء وتخصيب اليد بها)، وطقسا شفويا (قراءة الأسماء 63 مرة على الورقات)، تضاف جميعها إلى عناصر التأثير الاخرى (البخور- العدد ثلاثة- العدد 63) لتنتج- حسب زعم البوني الغرض, وهو هنا حضور الشخص المطلوب إلى طالبه.
كيف تمارس الوصفات والطقوس تأثيرها السحري على الواقع الملموس؟
- إن الاعتقاد في وجود الجن، وفي قدرته الخارقة على التأثير في عالم العناصر المحسوسة، يعتبر أساس المعتقدات السحرية في المغرب، ولذلك فإن الطقس السحري «يولد الجن» بتعبير دوتيه، وبمعنى أكثر وضوحا، تستهدف كل الممارسات السحرية التأثير في الواقع، عبر طقوسها وعناصر تأثيرها الأخرى، من خلال ممارسة تأثيرها على الجني الذي يوكل «إليه توزيع الأدوار القائم في عالم الخفاء امكانية التدخل لتحقيق رغبة الممارس الساحر, وتتأطر تلك الرغبة دائما داخل ثنائية إبطال مفعول الشر وجلب الخير: إبطال «العكس: وجلب عريس للفتاة التي تشكو العنوسة، أو شفاء المريض ومنحه الصحة، إلخ.
ولكل غرض «خادم» تتطلب استمالته القيام بطقوس معينة في شروط معينة, ولأجل ذلك تحفل مصنفات السحر الأساسية بأسماء وصفات «خدام» كل حرف من الأحرف، (وهم من الجن طبعا) وكل يوم من أيام الأسبوع، وكل كوكب من الكواكب السبعة السيارة, وهكذا.

الدم والقربان مشاعر سحرية غامضة ومخيفة (د. مصطفى واعراب)

يثير الدم في النفس البشرية مشاعر غامضة، تتأرجح بين الخوف والتقديس، فسهولة انسيابه، حرارته لونه الاحمر القاني ورائحته المتميزة، جميعها خصائص تثير بعنف خيال الناس قليلي المعرفة, ان الدم هو طابو بالنسبة للمغاربة، اذ يحرمون تناوله في الأكل او شربه، ويحذرون ان يطأوا بقعة دم منتشرة على الارض, بل انهم يتجنبون مجرد الاقتراب من اماكن تواجد الدم لاعتقادهم في ان الجن يتردد عليها وبسبب كل ذلك وغيره يحظى الدم في اعقتادهم بخصائص سحرية تجعل منه احد العناصر المهمة في وصفات السحر سواء اكان دم بشر او حيوان.

فبالنسبة للسحر بالدم البشري يحفل التراث السحري بالكثير من الوصفات التي تستعمل في الغالب اما دم الشخص نفســه المســتفيد من العــملية السحرية وصفات سحر الحب (او دم المــوتى او دم الحبيب او الغريم) وسنكتفي من كل ذلك بنموذج واحد شــائع حــيكت حوله الكثير من المعــتقدات هو «دم المــغدور».
دم المغدور
يعتبر دم كل شخص فارق الحياة في حادث قتل عنيف دما سحريا يستعمل في وصــفات الحاق الاذى بالآخر. وتتهم العجائز في شكل خاص باقتناص فرص الارتباك الذي يحصل بعد وقوع حــوادث الســير المميتة لأخذ قليل من الدم المتناثر على الاسفلت في قطعة ثوب او في ذيول الجلباب.

وحسب افادات بعض المصادر الشفوية فإن هذا الدم السحري كفيل بإحداث اضطرابات صحية خطيرة للأطفال الرضع الذين لم تظهر اسنــانهم بعد كما يستعمل من قــبل المــرأة التي تريد الانتقام من زوجها حيث يؤدي بالرجل الى فقدانه لقواه العقلية حيث سمــعنا قولا يردده بائع اعــشاب ومستحضرات سحرية يــنادي على الزبــائن في جوار ضريح ولي قائلا «هنا دواء دم المغدور ديري ليــه دم المغــدور ياش تحمقيه وتــخليه يدور» وهو ما يعكس مدى اعتــقاد العــامة في القــدرات العجيبة لهذا الدم اما بالنسبة للــطفل الرضــيع فإن الامهات يحرصن على إبــقاء اطفــالهن الــرضع بعــيدا عن النــساء اللــواتي لا يثــقن في نــواياهــن, وحسب ما هو شــائع، فإن مجرد دخول شخص يحمل وســط ملابــسه «دم
المغدور».
والتقاط حاسة «الشم» لدى الرضيع الذي يكون حساسا خلال تلك السن المبكرة للأصوات والروائح، يكــون كافــيا لإصابة الرضيع باضــطرابات صحية قد ينجم عنها عدم التئام عظام جمجمته وتسمى هذه العــملية «الشم».
ولأن الشيء يحدث الاثر كما يحدث نقيضه بحسب الظروف فإن دما آخر تمنحه معتــقداتنا خصائص سحرية مباركة يبــطل المفــعول المــؤذي لدم المغدور، وهو دم اضحية العيد المعروفة في هذا الصدد نذكر:
عندما يبلغ الرضيع اربعين يوما تقص خصلة من شعر قفاه يضاف اليها قليل من الكبريت ودم اضحية العيد المجفف ثم تخفى في حجاب يعـلق في عـنق الطفل.
يؤخذ دم اضحية العيد مع الزعفران الحر والقرنفل والسـانوج وتمـزج هذه المـواد مـع الـزيت وحليب الأم ليدهن بها رأس الرضيع.
يمزج دم الاضحية مع مريوت فراسيون والروضة وزيت الزيتون ويدهن رأس الرضيع بهذا الخليط.
علاج بعض الأمراض
ولا يقتصر استعمال دم اضحية العيد على الوقاية من الآثار السحرية المؤذية لدم المغدور على الرضع، بل ان المجتمعات المسلمة في دول المغرب العربي تستعمل دم الضحية طريا لعلاج بعض الامراض العارضة التي تصيب الكبار ايضا, كما تقوم ربات البــيوت بأخذ كمية من ذلك الدم لتجفيفها والاحتفاظ بها قصد التبخر بها لطرد الجن كما يدق الدم المجفف ويخلط مع الحناء لعلاج بعض الامراض النسائية خصوصا منها تلك التي تصـيب الثدي.
والحقيقة ان دماء الحيوانات تستعمل على نطــاق واســع في اعمال السحر، الداجــنة منــها او المتوحشة, وتشــمل لائحــتها خليطا عجيبا من كل الكمــيات والاصــناف، ويمتد مــن دم البــقة الــى دم الثور.
قرابين الدم
يعني القربان في علم الاجتماع «كل ما يتقرب به الى القوى العلوية من ذبيحة وغيرها» وقد تكون هذه القـوى الهـا او غيرها من القــوى فوق الطبيعة الاخرى: جــن، اولياء، ارواح، الخ واذا كانت لكل قربان دلالته وقيمــته الرمزية فإن اكثر انواع القرابين قيمة هي الذبائح التي تراق دماؤها خلال طقوس دينــية او سحرية على مكان مقدس.
وتختلف طبــيعة القرابين باختلاف المــناسـبات والجهة التي تقدم اليــها والشائع في معتقداتنا ان الجن يفضل من القــرابين بشكل عام المواد الغــذائية مثل فول، حليب، كسكس باللــحم ومن دون ملــح، الــخ ومــن الذبائح التي تحظى بالأفــضلية لديه ذبائح الدجاج والماعز الاسود, وتقتضي طقــوس تقديمها ان ينحر طائر الدجاج الابيض او الاســود او الأحمر حسب المناطق والمناسبات والمقاصد في الاماكن التي يعتقد في تواجد الجــن بها خصوصا مجاري المياه العدمة ثم يترك دم الذبيحة يسيل وينــثر بعد ذلك ريشها وامعــاؤهــا كــي «يلــتهمــها الجن» مع منع القطط والكلاب من الــنيل من تلك الوليمة الغريبة.
وحسب بعض الإشارات التـاريخـية فإن بعـض الانهار المـغربية كانت تشـهد اراقة دماء الذبائح بهدف التقرب والتودد الى الجن الذي يعتقد السكان في وجودهم في مياهها كما كانوا يريقون دماء الطيور في المغــارات والآبـار وغيرها من الاماكن المعتقد في وجـوده فيها لكن القرابين المقدمة للأولياء المنتشرين بكثرة في المغرب تظل الاكـثر انتـشارا وعلانية.
وحسب الملاحظة، يمكن تصنيف هذه القرابين الى صنفين رئيسيين:
من جهة نجد القرابين العادية التي تتوافد مع الزوار بشكل يومي حسب اهمية ودرجة شهرة الولي وتتمثل في الشموع والاعطيات المالية التي تقدم لدفــين الضريح من خلال اقرب الناس اليه اي المشرفين على ضريحه ويستمد هذا النوع من القرابين ضرورته وفق الاعراف القائمة من كونه يعتبر وســيلة تواصـل تسمح بربط وشائج علاقة روحية بين المريد وصاحب «المقام» اذ لا تجوز في عرف العامة زيارة الاولياء بأياد فارغة فمن شأن ذلك ان يغضــب «الــولي الصالح» من زائــره وهـناك من جـهة ثانية قرابين الــدم التي تعتبر اكثر اهمية نظرا لقيمتها الاقتصادية والــرمزية واراقــة الدم والتــي تقــدم للأولياء بشــكل مناســباتي او سنوي.
محاولة فهم دلالاتها
ان ظاهرة تقديم الذبائح للأولياء قديمة جدا في المغرب, وتجد اصولها في الحفلات الزراعية التي يقيمها اجدادنا تتويجا للمواسم الفلاحية، حين كانت القبيلة تجتمع حول وليها، في احتفال سنوي يخرجها من اطار الروتين اليومي وتشكل المناسبة فرصة لنحر الاضاحي على شرف الولي الاب الروحي للقبيلة ومن لحومها تهيئ النسوة ولائم جماعية كانت تؤجج حس الانتماء الجماعي الى القبيلة الواحدة.

لقد كانت للقربان حينها وظائف اجتماعية وروحية لكن ضاعت الكـثير من ملامح تلك الحياة الجماعية الاولى واصبحت القرابين التي تنـحر اليـوم على اعتاب الاولياء فرديـة وبشكل عام يمكن التمييز بين اربعة انواع رئيسيسة من قرابين الدم التي تقدم للأولياء هـناك اولا القرابين التي تنحر من اجل التقرب الى ولي وهذه العادة الشائعة لا علاقة للمستوى التعليمي او الاجتماعي بانتـشارها، بدلـيل ان بعــضا من الاطر السامية في اسلاك السلطة الترابية اشتهروا باتيانها علانية فبمجرد تعيين عمال الاقاليم يهب بعضهم الى زيارة الاولياء الاكثر شهرة في اقاليمهم رجال البلاد، كما تسميهم العامة وذلك تحت اضواء الكاميرات او في زيارات خاصة يحملون اليهم هبات مالية وذبائح قيمة تليق بمقامهم المقدس كما تقــدم هـذه القرابين في فترات الموســم السنوي للولي او بغير مناسبة وهناك ثانيا القرابين التي يلتمس مقدموها من الولي ابعاد الشـر عنــهم التطهر من العكس، طلب الشفاء، صـرع الجـن، ثـم هـنـاك ثالـثا قرابين الـدم التي يطلب اصحابها من القوى المقدسة الخفية انجاح مشـروع او صفـقة نجــاح فـي الاعـمال، تيــسير زواج، الـخ.
واخيرا هناك القرابين المقـدمة استــيفاء لنـذر ســبق للمعني ان قطـعه على نفسه ففي حالات معينة يقطع الـزائر او الــزائرة على نفـســه عهـدا بأن يحــمل الى الــولي ذبيحة في حال ما تحقق مراده, وحين يقضي الغرض يصبح على كــاهل صاحب النــذر دين ينبغي عليه ان يستوفيه والا انقطعت عنه بركة الولي.
ان المطلوب من الولي في هذه الحالات كلها وفي المقابل قربان الــدم المقدم اليه هو بركته البركة التي يمنحها لمقدم القربان كي تطرد الــشر المــسلط عليه من الآخــر والبــركة التي توفر الحماية من العين والبركة التي تيسر سبيل النجاح وتقضي الاغراض كلــها وتضــمن استمراريتها.
الاتصال
ولكن كيف يحصل الاتصال مع القوى العلوية من خلال قربان الدم، من وجــهة نظر المــعتـقد الشعبي؟
- يرى ادموند دوتيه وهو ابرز الدارسين للظواهر السحرية في المجتمعات المغاربية انه لكي يكون القربان مكتملاً اي مستوفيا لشروط القبول يكفي المضحي وهو ينحر الاضحية ان يدعو التـأثير الخلاصي للقوى فوق الطبــيعة كي يحل التأثير في لحم الاضحية التي سيتناولها فيما بــعد، مع الاكــل ويضيف دوتيه ان ذلك يحصل عندما يتم نحر القربان في جوار الولي ان سيلان الــدم علي الاعتاب المقدسة للولي هو شرط واجب لطرد التأثيرات الشريرة من المضحي بواسطة الذبيحة ويستنتج ادموند دوتيه انه لكي يتم طــرد الشــر بشــكل فعــال من طرف صاحب القربان ولكي توضع الاضحية في اتصال جيد مع العلوي ينبغي ان يســيل الدم بغزارة.
وقد كانت تقــام حول بعض الاضـرحة الشــهيرة في المغـرب، مـجـازر حقــيقـية للحيوانات خلال فترات المواسم السنوية وكانــت الاســرة ترعى قــربــان الــولي طــيلة اشــهر او طــيلة الســنة حتى اذا حــل المــوعد السنوي المنتظر لإقامة الموسم حملته الى وليها لتسيل دماءه على جنباته المقدسة.
وفي دراسة قديمة كتبها الباحث الفرنسي لاوست اشارة عابرة حول غزارة الدم الذي كان يفيض على جنبات احد الاضرحة الشهيرة في المغرب اذ ـ حسب لاوست ـ خلال الموسم السنوي لمولاي ابراهيم 80 كيــلو متــراً عن مراكــش الذي يقام بعد عيد المولد النبوي بأيام كانت تقام مجزرة حقيقية للديكة البيضاء الدجاج البلدي طبعا الى درجة ان دماءها كانت تسيل غــزيرة في غــدران على عــتبة «الزاوية».
قربان النار
بالنسبة الى عالمي الاجتماع الفرنسيين اوبي وموس فإن القربان هو وسيلة للدخول في اتصال مع الالوهية من خلال كائن حي يتــم تدمــيره خلال الحفل ويكون هذا التدمير اما بالـذبح كما رأيــنا كما قد يكون بالحرق حــيث عرفت الحضارات البشرية منذ القدم عادات تقديم القرابين البشرية والحــيوانية لكننا لم نعثر على ما يفيــد بوجود ظــاهرة تقديم القرابين البشرية في المغــرب، خلال اي عصر بيــنما كانت قــرابين النار من الحيوانات شائعة على نحو علني وجماعي خلال بعض المناســبات ولا نعــلم ان كانت تمارس حتى اللحظة الراهنة في بعض المناطق ولعلنا نجد في الطقوس السحرية التي تتضمن التبخر ببعض الحيوانات الصغيرة بعد رمــيها حية في لهيب المجامر كالحرابي جمع حرباء والعقارب وغيرها والتي مازالت تمارس على نطاق واسع اشكالا متأخرة لكن فردية وخفية لقرابين النار التي كانت في السابق جماعية وعلنية ثم انقرضت من مجتمعنا.
لقد ارتبطت قرابين النار في بلادنا ببعض المناسبات التي يتم خلالها اشعال نيران المباهج مثل العنصرة ومن امثلة قرابين النار التي ذكرها لاوست عند قبائل جبالة في الشمال الغربي كانت ترمي جثــة قط متوحش في الغــابة اما قبائل بني كيلد بالمغرب الشرقي فكان افرادها الرحل يحرقون دجــاجة بيضاء خلال نفس المناسبة ويقول وستر مارك انهم كانوا يحرقون ديكا ابيض في خيامهم وان ذلك الــطقس كان هو كل احتفالهم بالمناسبة الدينية اما في مدينة سلا فإن النــاس كــانوا يحرقون طائر البوم في النار بينما في تزروالت في سوس جنوب المغرب كانوا يرمون للنيران بعض الاسماك.
وفي تفسير هذه العادات الغريبة لم يكتب الشيء الكثير لكن حسب وستر مارك دائما فإن الدخان المنبعث من جــثث الحيوانات يطهر في اعتقاد الناس ـ من التأثيرات الشريرة وينقل البركة ولــذلك كانوا يعتبرون قرابــين النــار مفــيدة للزراعة ولقطعان اغنامهم اما عالم الاجتــماع الفــنلندي منهاردت فيستنتج من دراسته للــظاهرة ان لذلك الدخان خصائص سحرية.
ولعل من اغرب قرابين النار التي عرفها المغاربة قربان الحلزون الذي كانت تقــدمه بعــض قبــائل الاطلس الكبير لنيرانها فحسب لاوست دائما كانت قبائل آيت ايسافن تبدأ احتفالاتها بالمناســبة الدينية بذبــح بقرة على عتبة المسجد ويحمل دمــها ليراق في المكــان المخصص لنصب الموقد المقدس او الشعالة وفي اليوم التالي تذهب الفتــيات لجمع الحطب اللازم في الغابة بينــما ينصــرف الفــتيان من جهــتهم لالــتقاط الحلزون الذي سيحتفظون به الى غاية اليوم الاخــير من احتفالاتهم.
وعنــدما تخــبو النيران في اللــيلة الاخيــرة وتوشــك ان تنطفئ يتقدم فتــيان القبــيلة نحوها ليــرمي فيــها كــل واحد منهم حفــنة من الحلزون وهم يرددون باللهــجة المحـلية «مـونات دلباس نون» اي انهم يحــملون الحــلزون كل شرور سنتهم المقبلة ليدمروها في النار ويتخلصوا منها.

السحر بالكتابة بين الحروف والجداول والارقام (د. مصطفى واعراب)

يعد السحر المكتوب أكثر ضروب السحر الرسمي اهمية لدى العامة, وتنبع اهميته البالغة من حيث هو - في نظر العامة - «سحر عالم» بمعنى انه يقوم على علوم مضبوطة القواعد تدرس عكس ما هو عليه الأمر بالنسبة الى السحر الشعبي الذي تتناقل وصفاته بين عامة الناس عن طريق المشافهة.

واذا كانت فعالية السحر الشعبي نسبية اعتبارا لكونه يتداول بشكل مفتوح بين العامة فإن سحر الاحرف والأرقام يعد «مؤكد الفعالية» بسبب توفره على شرطي الغموض والسرية الضروريين لتمام العملية السحرية ونجاحها.
الوفق
الوفق ويسمى ايضا في لغة اهل «الحرف» الجدول او المربع ويسمى ايضا الخاتم هو جدول يتكون من عدد معين من الخانات افقيا ومثلها عموديا وتتوافق اعدادها واحرفها وتستوي في الاقطار والزوايا وعدم التكرار لتنتج مفعولا سحريا وتختلف اسماء الاوفاق بحسب عدد اضلاعها ففي الحال التي يكون عددها ثلاثا يسمى الوفق مثلثا وفي حال الاربعة مربعا وهكذا الى المعشر الذي هوالجدل المشكل من عشر خانات عمودية وعشر افقية.

وبحسب البوني فإن لكل صنف من الاوفاق اغراض يتوسل به الى قضائها وهكذا، فإن:
المثلث: لأعمال الخير وتيسير الاعمال العسرة كإطلاق المسجون وتسهيل الولادة ودفع الخصومة والظفر بالعدو والأمن من الغرق وابتداء الاعمال وذهاب ريح القولنج.
المربع: لأعمال الخير كالمحبة والجذب ومنع التعب والنصرة على الحرب والجاه والقبول ولقاء الأمراء وكسب مودة النساء.
المخمس: لأعمال الخير كتسليط المرض والفرقة والعداوة والخراب والرجم ومحبة النساء.
المسدس: لأعمال الخير كالرفعة والجاه والعمارة والنصر وزيادة المال.
المسبع: للظفر بالعدو وتسهيل العلوم ومنع السحر واذهاب البلادة.
المثمن: لأعمال الخير والشر والجاه وجلب الامطار والبرء من المرض وذهاب الجنون وتسهيل العلوم وابتداء الاعمال والاخفاء عن اعين الناس.
المتسع: لأعمال الخير كالجاه والقبول ودفع الخصومة والامن من المكائد وللمحبة والنصرة في الحرب ومنع البرودة من الاعصاب واذهاب البلغم.
المعشر: للعظمة والشرف ومنع الحديد ودفع السموم وذهاب الوباء وتسهيل الامور الشاقة وقضاء الحوائج من الامراء والسلاطين والنصرة في الحرب وغير ذلك.
فإذا اخذنا المثلث منها مثلا وهو الاقل تعقيدا بين كل الاوفاق فإن وضع الارقام بداخله يتم وفق ترتيب معين ويعتمد نمط «مثلث الغزالي» الذي يكون على طريقة (بطد ذهج واح) وهذا شكله:
وبعد ان تأخذ الارقام السحرية مكان الاحرف الاصلية: العدد 1 مكان الحاء و2 مكان الألف، و3 مكان الواو الخ,,, يصبح المثلث مثيلا للنموذج التالي:وكغيره من الاوفاق يشتمل المثلث على ثمانية اصول توظف لاستحضار الملائكة وهي المفتاح المغلاف، العدل الطرح الوفق المساحة الغاية والضابط والمفتاح بلغة اهل الحرف هو اصغر عدد يوضع في الوفق وهو في مثلثنا اعلاه العدد 1 بينما المغلاف هو اكبر عدد يتضمنه الوفق وهو هنا 9 اما العدل فهو مجموع المفتاح والمغلاف اي العدد 10 والطرح هو خارج تربيع الخانات في النصف الاول للمثلث بعد طرح 1 منه 12 والوفق هو حاصل ضرب تربيع الشكل في نصفه بعد اضافة 1 اي 15 والمساحة تعني خارج ضرب الوفق في مجموع الاضلاع اي 45 بينما يعني الضابط مجموع المساحة والوفق 60 وهكذا وصولا الى الغاية التي تعني ضعف المساحة زائد ضعف الوفق 120 ويستعمل السحرة حسابات معقدة باستعمال الاوفاق في العمليات التي يزعمون انها تمكن من تحقيق الاهداف التي ذكرها البوني فيما سبق وهي من التعقيد الى درجة تجعلها مستعصية على الفهم العادي ولذلك لن نخوض في تفاصيلها.
ويقدم معلم السحرة (البوني) نماذج كثيرة منها لتحقيق الطريف والغريب من الاغراض, وننقل من مؤلفه منبع اصول الحكمة واحدا يقول عنه ان له «سرا عظيما لخلاص المسجونين والمأسورين، واذا ضوعف كما تقدم وحمله الانسان هابته الوحوش جميعها ولم تحم عليه ابدا ولا يراه احد الا فر هاربا وعظم في اعين الناس.

وتعد الاوفاق الاخرى (غير المثلث) اكثر نأيا عن الفهم العادي لعموم الناس حيث تخضع اعدادها لـ التكعيب او التكسير وفق قواعد بالغة التعقيد والتركيب بحيث يتم وضعها (الاعداد) في شكل «الفرد وفرد الفرد وفرد فرد الفرد» او «الزوج وزوج الزوج، وزوج زوج الزوج» وهكذا دواليك بحيث يبلغ الامر درجة كبرى من التعقيد لن يفقه في استيعابها سوى «أهل العلم بعلوم الحرف».

وكأن كل هذه التعقيدات لا تكفي لإثارة دهشة زبائن السحرة فإنه لن تكفي كتابة الوفق وحدها كي يحقق الغرض المطلوب اذ ثمة شروط مرافقة ينبغي ان تجتمع مع الكتابة والا كان المفعول المأمول منعدم النتيجة ويلخص البوني اهمها وهو شرط توافر التوقيت المناسب للكتابة بالقول: «اعلم ان الوفق اذا كتب في وقت مناسب له قويت روحانيته (ملوك الجن الموكلة لخدمة الوفق) وتضاعفت قوته».
ولأجل ذلك يستحسن السحرة كتابة الوفق عندما تكون الابراج مناسبة للغرض المطلوب بحسب الجن والملائكة الذين يتوسل اليهم تحقيقه، اذ لكل خادم سفلي (جني) خادم علوي (ملاك) ـ بحسب زعيمهم ـ يساعده في تحقيق المطلوب لكن شريطة اختيار اليوم المناسب الذي تكون فيه القيادة لـ الخادمين فكما سنرى فيما بعد لكل زوج من الخدام الروحانية يوم محدد في الاسبوع يتولى خلاله سلطة الخفاء ويعتبر التوسل به خلال ذلك اليوم مجديا.
كما تضع مصنفات السحر لكل شكل من اشكال الاوفاق كوكبا من الكواكب السيارة السبعة يرتبط به ويستمد منه قوته السحرية وهكذا فالشمس لها الوفق المسدس والقمر له المتسع والمريخ له الوفق المخمس وعطارد له الوفق المربع اما المشتري فله الوفق المثمن بينما الزهرة لها المسبع ثم اخيرا كوكب زحل له الوفق المثلث.
ويمكن ان يكتب الوفق فوق قطعة ورق او رقعة جلد او عظمة حيوان او حجرا كما قد تخطه يد الفقيه الساحر على بيضة او اي سند آخر وتتداخل الكثير من العوامل الاخرى الاساسية او المكملة لإكساب الوفق فعاليته المرجوة بعد التوفق في استحضار «الروحانية» المتوسل بهم ونيل رضاهم لتحقيق المطلوب منهم.
ومن تلك العناصر نذكر طبعا البخور المناسب وتلاوة العزائم المرافقة (التراتيل السحرية) وتدخل المادة التي يكتب بها الوفق ضمن المواد البالغة الاهمية في العملية فقد تكون سائلا مكونا من محلول الزعفران في ماء الورد، او دم ذئب او ثعلب او سلحفاة برية او غيرها من وحوش البرية الذي يطاله خيال السحرة, وقد طالعت في مخطوط للسحر مجهول المؤلف مدني به صديق باحث على نماذج غريبة وعجيبة من الاوفاق التي يكفي تغيير المادة التي تكتب بها ومن دون المساس بالتفاصيل الاخرى لتتغير النتيجة المحصلة.
ففي احدى الوصفات الخاصة بـ «السحر الاسود» (اي الانتقامي) ذكر انه اذا كتب (الفقيه الساحر) الوفق بدم الفكرون (السلحفاة البرية) على عظم جيفه فإن المستهدف بالعمل السحري الشرير سوف «يمشي مثل الفكرون» بمعنى انه سوف يصبح مبطئا جدا في سيره من جراء مرض يلزمه نتيجة لذلك العمل.
واذا كتب الوفق نفسه على السند نفسه لكن بالصمغ (المداد السحري الاصغر الذي يحصل عليه من نقع الصوف المحروق في الماء) فإن المستهدف بالعمل السحري سوف «يرمي ثيابه» بمعنى انه سيفقد توازنه العقلي ويجن.
اما في حالة الكتابة بدم الضبع تضيف الوصفة فإن المعني بالأذى المسلط من خلالها يموت (كذا!)
المشاكل والتمائم
واذا كان سبب وقوع المصيبة هو ممارسات طائشة وعيوب في التقدير وتصرفات غير ملائمة فإنه يتم اضمار ان ذلك ليس من قبيل المصادفة بل من عمل القوى الخفية العدوة الشيطانية التي تنبغي مناشدتها بواسطة تصرفات من النوع نفسه.
و(الطلبة) هم من يتدخل مرة اخرى لإنتاج طلاسم فعالة لذلك، ويكفي الذهاب الى الساحات العمومية، على هامش الاسواق الدائمة او الاسبوعية للعثور على كتبة يستطيعون وضع كتابة غير مفهومة المعنى مربعات سحرية (جدول)؟ تمزج عبارات دينية مع حواشي باطنية في مقابل بعض الدراهم, في مواجهة هذه الطلاسم تكون قوى الشر بلا تأثير يصيبها الذعر فتتراجع, ان اللجوء الى صنع التمائم الوقائية او العلاجية ليس معتقدا وممارسة حديثين، اذ «كان للتمائم المقام الاول عند المصريين القدماء فوضعوها على اعتاب المنازل، وتحت اعتاب الابواب او داخل حجرات البيت، وكانوا يضعونها في اماكن نومهم وتحت وسائد رؤوسهم او في اماكن ممارسة اعمالهم اليومية كما صنعوا منها وسائل زينتهم فكانت المعلقات التي تتوسط الصدور او تتدلى حول الاعناق او تتوج لباس الرأس كما تفيد المراجع التاريخية بأن التمائم كانت معروفة لدى حضارات الشرق القديمة الاخرى مثل البابليين والآشوريين بشكل لا يختلف كثيرا عن الحروز والاحجبة الحالية.
الحرز
«الحرز» او «الحجاب» في الغالب عبارة عن تعاويذ وآيات من القرآن خصوصا المعوذتين (سورتي الفلق والناس) وفي احيان اخرى يحمل الحرز الرقية التي تقول «بسم الله ارقيك من كل داء يؤذيك من شر كل حاسد وعين الله تشفيك» او قد تحمل اسماء الملائكة او بعض مشاهير الانبياء وتتخلل تلك الكتابات اشكال هندسية يقال ان لها مجتمعة اثرا لا يعلم سره الا واضعو «الحروز» وحدهم,وتكتب «الحروز» بريشة تصنع من القصب الجاف ومداد «سحري» يعرف محليا باسم «الصمخ» او «الصمق» او «الصمغ» بحسب الجهات وهو عبارة عن مداد يميل الى الصفرة يصنع عادة بنقع الصوف المحروق في الماء او بشع السوائل الاخرى كما تكتب الحروز بماء الورد او ماء زهر الليمون او محلول الزعفران في الماء وغيرها بل ان بعض المواد الغريبة والمقرفة تستعمل احيانا لكتابة بعض النماذج الخاصة جدا من الحروز كالنجاسة الآدمية (براز الشخص المستفيد من العملية السحرية) عندما يتعلق الامر بإبعاد الارواح الشريرة.
اما السند التي تكتب عليه الحروز فقد يكون قطعة ورقة بيضاء او ورق بصل او قطعة رغيف او حبة لوز او تمر، او آنية المطبخ، وبحسب نصيحة «الفقيه» الطالب» ينصح المريض اما بنقع الحرز المكتوب على ورقة في اناء به قليل من الماء ثم تناول المحلول المحصل عليه من طرف المريض على جرعات منتظمة او التوضؤ بذلك الماء او مسح مناطق من جسمه التي تكون مريضة، كما قد ينصح المريض بأكل الرغيف الذي كتب عليه العبارات السحرية او ورق البصل او التمرة او ما إلى ذلك.
وفي احيان اخرى يأخذ «الطالب» صحن الخزف الصيني (زلافة جبانية) ليكتب داخله الحرز ثم يغسل ما كتب بقليل من الماء ويشربه المريض وقد تكتب الحروز ايضا على بيض الدجاج او يلجأ «الطالب» الى القراءة بدل الكتابة على كأس ماء او زيت ليبيعه للمريض كما يباع محلول الدواء في الصيدلية.
ولكن الشكل الاكثر تداولا للحروز يبقى هو النموذج الذي يصلح لكل شيء ويتم تعليقه على اجزاء من الجسم (في العنق او اليد او البطن) بواسطة خيط صوفي احمر او اخضر، وذلك بشكل من التمائم يباع جاهزا وملفوفا في مربعات صغيرة من ورق النحاس الاحمر او الثوب الابيض نجده لدى العطار (بائع الاعشاب والمستحضرات العلاجية والسحرية) كما يباع للزوار مقابل اي مبلغ يقدمونه في جنبات اضرحة بعض مشاهير الاولياء في المغرب, وبالنسبة للحرز الذي يصنعه «الطالب» برغبة من مريض تقتضي طقوس العلاج ان يبدأ الفقيه المعالج (الطالب) بتلاوة سرية وغامضة موجهة للجني الذي يصادف «يومه» اليوم الذي بدأ المريض يستشعر خلاله الداء (فلكل جني يوم يكون تحت سلطته).
الفقيه
وعندما يتعرف الفقيه على «هوية» الجني المسؤول عن اصابة المريض يرسم الرمز المخصص له على الحرز ثم يقدمه للمريض ناصحا إياه بحمله في العنق باستمرار اذا كانت الاصابة مست الرأس او الصدر او البطن.
اما في حال الامراض الخاصة بالمعصم والكعب والاطراف والجهازين العصبي والهضمي فإن طقس العلاج يقتضي من المريض تعليق الحرز المعالج في حزامه.
وهكذا لعلاج اوجاع المفاصل مثلا يكتب الفقيه العلاج السحري على ورق ازرق من النوع الذي تلف داخله قوالب السكر (في المغرب فقط) فيقوم المريض بنقع ذلك «الحرز» في قليل من الماء حتى يتحلل فيه المداد الذي كتب به الحرز وعلى مدى ثلاثة ايام يقوم بشرب جرعات من ذلك الماء السحري على الريق وحين يفرغ الاناء الذي نقع فيه الحرز من الماء يفرغ فيه المريض بضع قطرات من الزيت (زيت الزيتون او زيت المائدة) ويتناول الورق الازرق الذي كتب عليه الحرز يمسح به الاناء وقطرات الزيت ثم يحك به مفاصله المريضة ولعلاج مرض شلل عضلات الوجه (المعروف مغربيا باسم «اللقوة» فإن الطالب يقوم بكتابة الحرز على لحم المريض مباشرة ويتكون المداد السحري الصمغ من محلول مصنوع من مزيج الثوم المهروس والقطن المحروق المذاب في الخل.
اما في حالات الاصابة بأمراض معدية يكتب الطالب حرزا بالقطران على الورق الازرق لتلفيف السكر ويرميه في محرقة الابخرة المبخرة بعد ان يضيف اليه قليلا من الحرمل ثم يتبخر المريض بالدخان المنبعث منها وبذلك يتم طرد الجن الاشرار الذين كانوا سبب الاصابة بالمرض فتتوقف العدوى, ولجانب الوقاية استعمالات كثيرة اخرى حيث تذهب النسوة الحوامل اللواتي يتعرضن للاجهاض المبكر ولا يتمكن من الاحتفاظ بحملهن الى الفقيه فيكتب لهن حرزا بآخر يحملنه تحت ملابسهن بحيث يلمس جلد البطن، ويقتضي الامر منهن ان يعاودن عيادة الفقيه مرة كل شهر لتغيير الحرز الجديد ضمانا لفاعلية العملية.
ان الحرز هو اكثر من اسلوب علاجي او وقائي فهو يحظى بمزيج من مشاعر الخوف والتقديس التي تثيرها قدرته على معالجة اكثر الامراض استعصاء على العلاج من الطب الحديث ولذلك لا ينبغي تدميره بالتمزيق او الحرق، بل ارجاعه الى من هم ادرى بأسراره (اي الطلبة صانعي الحروز) من دون حتى فتحة للاطلاع على ما هو مخطوط بداخله تحت طائلة التعرض للعنة غامضة.
«السبوب» علاج الاطفال بالكتابة
يعتبر «السبوب» من بين اكثر اشكال الحروز تداولا في المغرب وتؤكد ربات البيوت انه فعال جدا في وقاية وعلاج الاطفال وخصوصا الرضع من الامراض الكثيرة والغامضة التي تصيبهم بسبب ضعف جهاز المناعة لديهم، بينما تعتقد امهاتهم انا من التأثيرات الشريرة للجارات او القريبات الحاقدات.
وفي صناعة «السبوب» يصنف الفقهاء الى مستويات والذي يكثر الاقبال عليه هو من تكون «يدو مزيانة» اي ان ما يكتبه لربات البيوت الخائفات يهدئ من اضطرابات فلذات اكبادهن وتشكو الامهات غالبا من نفس الاعراض نوبات بكاء مسترسلة تقطع انفاس الرضيع ارتعاش في النوم (حركات عصبية لا ارادية) عيوب خلقية تشوه شكل الرأس، ولعلاج البكاء لدى الرضيع يأخذ الفقيه ريشة من قصب يغمسها في صمغ ويكتب على ورقة بيضاء كلاما لن تقرأه الأم (اذا كانت متعلمة) لأنه محظور عليها فتح السبوب والاطلاع على مضمونه فاحترام الغموض الذي يميز السحر هو من شروط نجاح العلاج، كما رأينا وما يكتبه الفقيه نقلا عن «كتب العلم» يشبه في الحقيقة ما يلي:
«عيسى ولد يوم السبت فلا كلب ينبح ولا ريح تلفح ارقد ايها الطفل بغير بماء الى ان تصبح بألف حول ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اذ اوى الفتية الى كهف سنين عدد وخشعت الاصوات الا همسا» ثم يطوي «السبوب» ويعطيه للأم ناصحا اياها بأن تضعه في ماء نقي حتى يتحلل ورقة وصمغه، ثم تنازل قطرات من ذلك المحلول السحري لصغيرها او ان ترمي بالسبوب في مجمر متقدة ناره وتعرض صغيرها للدخان المتصاعد منه او ان تلف «السبوب» في ثوب ابيض وتعلقه بخيط احمر في عنقه.
وهناك زوايا وطوائف مشهورة في المغرب بإنتاج السبوب تحظى بمصداقية لا تضاهي ومن اشهرها زاوية «الخيايطة» في نواحي الدار البيضاء ويعتمد اسلوب عمل هذه الطائفة على تسليم سبوب للزبون حسب نوع الاصابة ومطالبته ارجاعه سواء حصل العلاج او لم يحصل لأخذ سبوب آخر وهكذا تستمر عيادة ذوي المريض الى الزاوية حتى يشفى وهو ما يخلق ترابطا روحيا بين الطفل والزاوية.
الجدول
يعرف المعجم الوسيط الطلسم بأنه خطوط واعداد يزعم كاتبها انه يربط بها روحانيات الكواكب العلوية لطبائع السفلية لجلب او دفع اذى وهو لفظ يوناني لنعت كل ما هو غامض ومبهم كالألغاز والاحاجي وحسب ابن خلدون فإنه اذا كان السحر هو اتحاد روح بروح، ولا يحتاج الساحر فيه الى معين فإن الطلسمات يحتاج فيها الساحر الى معين فيستعين بروحانيات الكواكب واسرار الاعداد وخواص الموجودات واوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر ولذلك فإن الطلسمات اتحاد روح بجسم اي ربط للطبائع السماوية (التي هي روحانيات الكواكب) بالطبائع السفلية.
ويعني ذلك ان الطلاسم (او الطلسمات) ليست شيئا آخر سوى الجداول (بالتعبير المغربي الدارج الذي ينطق الكلمة بجيم ساكنة مع تشديدها) ان صناعة الجداول تخصص لا يتقنه سوى نخبة الفقهاء السحرة الذين اكتسبوا معرفة دقيقة بأكثر «علوم السحر» تعقيدا ولأجل ذلك يطلبون مقابل عملهم تعويضات من الزبائن تكون قيمتها المالية كبيرة.
واهم العناصر التي صنع منها الجداول هي: حروف غير مفهومة مثل السبع خواتم، (معروفة بخاتم سليمان) حروف ابجدية، ارقام، اسماء هجرية، اسماء عناصر، اسماء الشياطين وملوك الجن والملائكة، اسماء الله الحسنى، سور من القرآن، اشكال هندسية مختلفة.
وتسمى الجداول كذلك في لغة السحرة «خواتم» او حسب شكلها الهندسي مربع مخمس وهي من التنوع والغرابة بشكل يرعب العامة او على الاقل احترامها للعمل السحري ومن مطالعتنا لبعض كتب السحر التي تحفل بالكثير من النماذج نستخلص ان الجدول الواحد يصلح لقضاء اكثر من غرض واحد وطريقة الاستعمال وحدها تحدد النتيجة التي حصل عليها المستفيد من العملية ونظرا لأن تلك الرسوم التخطيطية الغامضة تبدو متضمنة لخاصية سحرية (كل ما هو غامض هو سحري) فإن مؤلفي مصنفات السحر الاساسية بالغوا في حشو بعض الجداول بكل ما هو غريب وغامض من الرموز بيد ان اكثر اشكال الجداول خطورة (من وجهة نظر المعتقدات السحرية) واثارة لرعب العامة هي تلك المسماة «الجدولية»,والجدولية هي رقعة ورق وضعت عليها كتابات سحرية يتم اعدادها غالبا بدافع الغيرة وبغاية الانتقام الاسود من غريم او عدو وهذه العملية السحرية تستدعي القوى الخفية على رجل او امرأة من قبل فقيه ساحر يتعاهد من جني لإشراكه في العملية بحيث يصبح الجني حارسا للجدول السحري وضامنا لاستمرار مفعوله طالما بقي المستهدف بالعمل السحري حيا, ويمكن تلخيص العملية فيما يلي:
«بعد ان يعد الساحر الجدولية» يقيم عهدا مكتوبا مع جني بأن يحرسها ثم يقوم بدفن كل من الجدولية والعهد المكتوب في الروضة المنسية باتباع طقس معقد جدا والروضة المنسية في فهم المغاربة هي المقبرة المهجورة التي كفت منذ امد بعيد عن استقبال موتى جدد وانمحت الكتابات من شواهد قبورها», ان الاثر السحري الذي يترتب عن هذا العمل المرعب يتحدد في جعل المستهدف منه يصبح غائبا عن محيطه وبتعبير المختصين في صرع الجن فإن ضحية الجدولية تصبح «ملبوسة من طرف الجن» وهي اخطر انواع الاصابات التي يلحقها الجن بالبشر وربما نجد في الامر بعض التشابه مع المضمون الغرائبي لحكايات الف ليلة وليلة التي اثرت بعمق في المتخيل الشعبي العربي وتركت بصمات واضحة المعالم في فلكلورنا الوطني وعلى الخصوص منها حكايات الجن الذي يظل مسجونا في قمقم او حارسا يحمي كنزا لعدة قرون, وفي زعم السحرة ان الجني الذي يحرس الجدولية يصبح متقمصا (لابسا) للضحية حتى لا تستطيع اية قوة سحرية اخرى ابطال مفعوله وفي محكمة الجن الكبرى في بويا عمر يحدث ان ينهار الحارس للجدولية اثناء حصص «الصريع» فيفيد هيئة المحكمة الغيبية بمصدر الشر الذي يحرسه واسم صاحب الجدول السحري والفقيه الذي صنعه وفي بعض الاحيان حتى المكان الذي دفن فيه الجدول والعهد, ولا يقتصر استعمال الجداول على الاغراض الملحقة للأذى بالغير فقط، بل يستعمل لأغراض نافعة ايضا, ومنها علاج لسعات الحيوانات السامة، والكلاب المصاب بالسعار، ولأجل ذلك ينقع الورق الذي كتبت عليه عبارات سحرية سرية في ماء، ثم يقدم شرابا للمريض، كما تعلق بعض الجداول الاخرى بغاية علاج امراض خطيرة، كحمى المستنقعات وأمراض القلب، وآلام الاعصاب والعقم، وغيرها,,.