تديين السياسية بعد تسييس الدين



ليس مستهجناً ولا ضاراً أن يختلف الفقهاء والأئمة والدعاة المسلمون حول تطبيقات أحكام الشريعة ومقاصدها، ولا أن يتباينوا في تأويل النص وتفسير المقاصد وتطبيق الحدود وغيرها من شؤون العباد وشجونهم. فقد كانت هذه الاختلافات التي اعتبرت رحمة للناس حاضرة دائماً على مدى القرون الطويلة الماضية، ومطلوبة بشدة كلما تعقدت ظروف الحياة اليومية لعامة المسلمين المحتاجين لمن يشرح لهم دينهم ويترجم المبادئ الفقهية إلى أحكام تفصيلية ميسرة قابلة للفهم والتطبيق.

غير أن ما بدأنا نشهده في السنوات القليلة الماضية، خصوصاً بعد انتشار الفضائيات الدينية، وشيوع مظاهر التطرف في بلاد المسلمين، وابتلائهم بآفة الإرهاب فاق كل ما عهدناه في السابق من تنوّع صحي بين رجال الإفتاء المتنورين، حيث تكاثرت الفتاوى وتهافتت مستوياتها، وفاضت عن الحاجة الحقيقية لها، ومن ثم دخلت في مسائل لا تقع كلها في دائرة الحلال والحرام، ما أدى إلى نشوب حروب فوق الصراط المستقيم، وانزلاق كثير من الدعاة إلى وحل الحياة السياسية والنزاعات بين الدول والحكام.

ذلك أن كثيراً من هؤلاء الرجال الذين يعتلون شاشات الفضاء التلفزيوني ليلياً، ويمطرون جمهور المستمعين والمشاهدين بكل ما يتصل بشؤون دينهم ودنياهم، يقدمون في واقع الأمر صورة عن مدى عمق الأزمة الحضارية التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، ويدللون بأم أنفسهم على مدى تدهور أحوال المناخ الفكري، وانحسار الحوار العقلي، وانحطط الممارسات، فوق إشاعتهم لأجواء من التطرف والتشدد والمغالاة، من خلال استخدام المقدس في أبواب أبعد ما تكون عن باب العلوم الفقهية وأحكام المعاملات الشرعية.

وكان من الممكن الاكتفاء بمراقبة المشهد عن بعد، ومقابلة الحروب بين أمثال هؤلاء الفقهاء بابتسامة طفيفة من جانب المخاطبين بفتاو ٍ يثير بعضها الضحك والتهكم، مثل فتاوى إرضاع الكبير وإعدام ميكي ماوس وقطع رؤوس المانيكانات في الفترينات. غير أن هؤلاء انزلقوا فيما بعد إلى معمعان تديين السياسة، بعد أن سيّسوا الدين طويلاً، وذلك من خلال اختياراتهم لنصوص ملائمة للأهواء الحزبية، وتفسيرها بطرائق تخدم أو تعارض أولي الأمر في بلدانهم، وتلبي أغراض لحظة سياسية بعينها.

ومع الإدراك المسبق أن هذه المنطقة المغلقة على رجال الإفتاء تبدو مليئة بالكمائن والمتاريس، وأن السباحة على شواطئها الضحلة تتطلب الحذر إزاء الألغام البحرية المبثوثة تحت السطح، إلا أن إفراط هؤلاء في إدخال كل شأن عام في قطبية المحرم والمشروع، أخلّ بالوظيفة الجوهرية للإفتاء، وأخرجها عن مجراها الأساسي، حتى لا نقول إنه زاد من تشوش الصورة المشوشة أصلاً عن الإسلام لدى الغير، وأسقط عنها سمة التسامح والوسطية والاعتدال، وبالتالي فقد أضعف هذا الإفراط غير المسبوق بسلطان المفتين على العباد والبلاد.

ولعل هذا التضارب الشديد بين مقامات فقهية رفيعة حول الجدار الذي تقيمه مصر على حدودها في رفح، خير مثال على ما آل إليه حال الإفتاء والمفتين، الذين أدخلوا الدين في شأن سياسي محض، وراحوا يشدون النكير لبعضهم بعضاً حد الإلغاء والاستئصال، وهو أمر خلافي كان ينبغي تركه للأحزاب والفصائل والعواصم المختلفة فيما بينها حول كل شاردة وواردة، والنأي بالدين عن سجال يخص الساسة والحكام، عوضاً عن إلباس انحيازاتهم السياسية المسبقة لباس الفقه والشرع والإفتاء.

وليت الأمر توقف عند حدود التحريم الشرعي، واقتصر على تقديم الفتاوى عند بيان الحدود وترك الأخذ بها من عدمه للمخاطبين بها من الحكام والمحكومين، فقد ترافقت معظم هذه الفتاوى مع حملات إدانة وتخوين وتكفير، وصاحبها غلو في إصدار الأحكام القطعية ضد المخالفين، بلغ حد الدعوة إلى تقطيع أطراف هؤلاء من خلاف، ونفيهم من الأرض، بل حتى رجمهم على قارعة الطريق، وغير ذلك مما يخلق البيئات المواتية للتطرف والإرهاب، والإثقال أكثر فأكثر على صورة الإسلام والمسلمين. 


عيسى الشعيبي

*نقلاً عن "الغد" الأردنية

0 التعليقات:

إرسال تعليق