عبد السلام ياسين.. معارض سياسي في لباس صوفي


"المرشد راسل الملك.."، "المرشد رأى كذا.."، "المرشد أصبح خليفة.."، "المرشد مرض.."، "المرشد قال.."..عبارات جعلت مرشد العدل والإحسان المغربية الأستاذ عبد السلام ياسين، أهم رموز الحركة الإسلامية بالمغرب على المستوى الإعلامي والسياسي.

المعلم السابق والمفتش في سلك التعليم الثانوي لم يكن يدري يوما أن ثورته الهادئة على أسلوب عمل الطريقة البودشيشية ستجعله أهم الشخصيات التي تقض مضجع "المخزن المغربي" وتجعله في ترقب دائم مخافة أن تتحقق إحدى رؤى الشيخ أو أتباعه في إحداث "القومة" لتغيير واقع المغرب السياسي وتحقيق العدل السياسي والإحسان الصوفي.
أول ما يستوقف المتأمل في سيرة الشيخ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان المغربية قدرته على الجمع بين المتناقضات، خاصة إذا كانت هذه المتناقضات في إطار العمل الإسلامي، فالمعارضة المنطلقة من أرضية صوفية، تمزج بين الصوفية والسياسة ونظام الزاوية وتنظيم الحركة في كيان واحد، متناقضات قلما تجتمع لزعيم إسلامي في عالم الواقع.. لكن ياسين استطاع أن ينجح في تزعم جماعة إسلامية ذات منهجية صوفية تتبنى خطًّا شديد المعارضة للنظام السياسي الحاكم في المغرب.. وجه رسائله إلى ملكي المغرب (الحسن الثاني، ومحمد السادس) شخصيًّا، ووضع رهن الإقامة الجبرية لأكثر من 10 سنوات، رفعت أغلالها بعد تسلم العاهل المغربي زمام الحكم.
في رحاب الزوايا الصوفية
خلال حلقات المراجعات، التي بثتها قناة الحوار اللندنية في الصيف الفائت، كان حديث الشيخ ياسين عن نفسه أصح رواية من روايات الأتباع والمريدين المغرمين والخصوم السياسيين.
فالرجل عاش منذ صغره حياة مليئة بالأحداث: قرأ لعلمين من أعلام المادية (فرويد وماركس) فانتهى إلى التصوف، ودخل الزوايا مريدا فخرج شيخ طريقة، كتب يصف حاله قائلا: "كانت العقلانية الماركسية الفرويدية مرتعا لنشاطي الفكري منذ أمد بعيد، تعيش بل تعشش في ذهني (...) وأخذ علي العهد الصوفي مقدم الطريقة".
ذكر عبد السلام بن محمد بن عبد السلام أنه من مواليد مراكش عام 1928م، كان أبوه فلاحا بربريا فقيرا، رغم أنهم ينتسبون إلى أسرة عريقة تدعى "آيت بيهي" يقال إنهم أشراف أدارسة. تلقى دروسه التعليمية الأولى في مدرسة أسسها الشيخ محمد المختار السوسي، ثم تخرج بعد أربع سنوات من الدراسة في معهد ابن يوسف ليلتحق عام 1947 بمدرسة تكوين المعلمين بالرباط. عمل في سلك التعليم لمدة 20 سنة تدرج خلالها في مجموعة من المناصب التربوية والإدارية العالية، ومثل خلالها المغرب في عدد من الملتقيات الدولية.
التحق عبد السلام بالزاوية البودشيشية عام 1965 متتلمذا (مع ثلة من المريدين) على يد مؤسسها العباس البودشيشي، الذي كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، فضلا عن كونه حلوليا (أي يؤمن بأن الله يحل في بعض خلقه، وأتباعه يعتقدون أن الله تعالى يحل في شيخهم؛ فيخرون عند ذلك للشيخ سجدا، ويقولون: هذا الله).
وبعد وفاة البودشيشي، رأى ياسين أن تربية الزاوية لا تمنح القدرة على تغيير الواقع المتحرك وفق "روحَ التصوف" مُبقية على شكلياته، فتركها، وهو ما أرجعه بعض منتقديه إلى رغبته في زعامة الطريقة التي آلت إلى حمزة نجل مؤسسها بعد وفاة العباس.
و"البودشيشية" طريقة صوفية  نشأت في منتصف القرن الماضي ترجع في أصلها إلى الطريقة العليوية، وهي طريقة في الجزائر، متفرعة عن الطريقة القادرية.. ومن شروط هذه الطريقة: الخضوع الكامل للشيخ، واستشارته في كل الأمور، فلا يقوم المريد بذكر، أو قراءة أمر من أمور الدنيا إلا بإذن الشيخ.
الصراع مع الدولة
كان أول ظهور سياسي لخريج الزاوية الصوفية هو رسالة النصيحة إلى ملك المغرب السابق الحسن الثاني عام (1974)، جاءت في أكثر من مائة صفحة وسماها "الإسلام أو الطوفان"، الرسالة كانت موجهة أيضا إلى كبار الشخصيات والعلماء والسياسيين ورجال الفكر والثقافة، قبل أن تصل الملك، ومما جاء فيها: "اعلموا أن صاحبكم (يقصد الملك) إن طرح النصيحة وماطل وراوغ ذاهبٌ أمرُه وصائرٌ إلى ما يصير إليه من أخذته العزة بالإثم حين قيل له: اتق الله".
كانت رسالة شديدة اللهجة قضى على إثرها ثلاث سنوات وستة أشهر محتجزا في مستشفى للأمراض العقلية، وكانت هذه الرسالة -من جهة أخرى- بمثابة إعلان عن نهاية مرحلة الانتماء للزاوية البودشيشية وبداية مرحلة سياسية جديدة في حياة الرجل أبرز معالمها الدخول في حلقات من الصراع مع الدولة.
خرج ياسين من محبسه عام 1978 وما لبث أن عاد إلى الدروس في المسجد حتى صدر الأمر بمنعه من التحدث إلى الناس، ليقوم بإصدار مجلة "الجماعة" في فبراير 1979  لتخاطب الناس وتبلغهم أفكار الشيخ ياسين، ثم لاقت مضايقات وصودرت أعدادها، وقبل وقفها تماما كتب فيها مقالا تحت عنوان: "قول وفعل" رد فيه على ما ورد في رسالة ملكية نشرها الحسن الثاني بمناسبة حلول القرن الخامس عشر الهجري، وقد كان هذا المقال السبب في الاعتقال الثاني الذي جرى لياسين عام 1983.
جماعة العدل والإحسان
بعد خروج الشيخ عبد السلام ياسين من معتقله عام 1985، وجد مجموعته قد توسعت تنظيميا وعدديا، مما مكنه عام 1987 من رفع شعار "العدل والإحسان" ثم إطلاق الاسم نفسه على الجماعة التي صار مرشدا لها واعتبرتها السلطات المغربية جماعة غير شرعية، لكن ذلك لم يحل دون أن يصبح للجماعة حضور واضح في المؤسسات التعليمية والثقافية ودور الشباب والأعمال الخيرية.
وتتقاطع جماعة العدل والإحسان في بعض توجهاتها مع الطرق الصوفية، حيث اشتمل المنزع الروحي لها على تصور تربوي قائم على الصُّحبة والجماعة والذِّكر، لكنها جمعت إلى هذه الأحوال الصوفية منزعًا سياسيًّا، وفق تصور صوفي حركي يتميز برفض العنف، والاغتيال السياسي، ورفض السرية.
ولما رأت الدولة أن أمر الرجل -رغم التضييق والقمع- يزداد اتساعا، فرضت عليه حصاراً جزئياً في بيته، حتى أن كل من أراد أن يدخل بيت ياسين كان يطلب منه تقديم البطاقة الوطنية لرجال الأمن، وهو ما منع الناس -حتى أقرباؤه- من زيارته؛ لذلك قرر أفراد الجماعة الامتناع عن تقديم البطاقة عند زيارة بيت ياسين، فضاقت السلطات بنشاطهم الآخذ في التصاعد خاصة اللقاءات في بيت المرشد، فجاء الحصار الشامل.. وفي بدايات عام 1990 خرج ياسين لصلاة الجمعة وألقى كلمة في جموع المصلين من عموم الناس وأعضاء الجماعة معلنا فتح جبهة جديدة لا قِبَل للعدو بمواجهتها، وهي القنوت والدعاء على الظالمين، وقد سبقت هذه الفترة اعتقالات ومحاكمات حتى تم اعتقال جميع أعضاء مجلس الإرشاد.
وبعد موت الحسن الثاني عام 1999 وتولي ابنه محمد السادس زمام الحكم بالمغرب، أرسل له ياسين هو أيضا رسالة تحت عنوان: "إلى من يهمه الأمر"، نصحه فيها بألا يحذو حذو أبيه، وأن يلتزم بشعائر الله، وأن يعيد المال إلى الشعب المغربي وبهذا تتحقق توبته. لكن الملك الشاب لم يتفاعل مع الرسالة كما فعل أبوه، بل تجاوزها إلى رفع الإقامة الجبرية عن مرشد الجماعة في 10 مايو 2000 ليتمتع الشيخ بحرية مشروطة دون أن يزاول أنشطته الدعوية كما كان في السابق، مع ظهور مبادرات بين الحين والآخر لجس النبض في تغير الموقف من الدولة ودفع المرشد وجماعته للعمل في حزب قانوني شرط التوافق على المقومات السياسية بالمغرب.
مآخذ الإسلاميين على ياسين
بقدر ما للرجل من دور في تربية الأتباع تربية روحية وتوجيه عملهم السياسي والثقافي والاقتصادي، فإن ياسين لم يسلم من مهاجمات، خاصة بعد رؤيا سنة 2006، التي جعلت السلطات الأمنية بالمغرب تشدد الطوق على تحركات الجماعة وأبنائها من أن تتحقق "القومة"، بعد إشاعة مبايعة ياسين خليفة للمسلمين.
لعل المفارقة الأخرى التي حظي بها عبد السلام ياسين كثرة مآخذ الإسلاميين المغاربة على توجهاته وأفكاره، فعلى الرغم من تزعمه لإحدى أهم الجماعات الإسلامية بالمغرب فإن ياسين يلقى هجوما عنيفا، من وقت لآخر من قبل دعاة وقادة العمل الإسلامي بالمغرب، خاصة من التوجهات السلفية، التي ترى في منهجه الصوفي "خرافات عقدية" تجب محاربتها بكل الوسائل.
ومن أهم ما يؤخذ على الرجل ما يدعيه ياسين لنفسه بأنه "ولي من أولياء الله"، وهو "خليفة المسلمين"، كما أنه يجالس ويشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويرى الملائكة، فضلا عن ترويجه للخرافات، من خلال الرؤى والمنامات والمشاهد التي يرويها أتباعه وينشرها ياسين على موقعه الشخصي.
ووصل الأمر بمنتقديه أن نسبوه إلى الشيعة والتشيع بدعوته إلى الاستفادة من الثورة الإسلامية بإيران وتفعيل "العصيان المدني".
وزاد من قوة الهجوم افتخار أتباعه ومريديه بشخصه ومواقفه، حيث يعتبرونه خليفة رسول الله في الأرض، وأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يتجلى فيه، مستندين إلى منامات رأوها وفق الآلية التربوية لتأطير الأتباع، التي ترى الرؤيا محددا رئيسا في التربية الروحية.
ويرى خصوم الجماعة، بنفس لا يخفى جانب المبالغة فيه، أن إدارة ياسين لجماعة "العدل والإحسان" وتحديده للمسئولين عنها يغلب عليها الجانب العائلي في توزيع المسئوليات حسب الكفاءة والمقدرة  التنظيمية، إذ يلاحظ أن عبد السلام ياسين محاط ببناته وأصهاره وأقربائه، وهم مستفيدون من الوضع المالي والمعنوي للجماعة، علما بأن أتباعه يؤدون شهريا للجماعة أقساطا مالية، فكان التهكم عليه في الصحافة يدور باعتباره المدير العام لـ"شركة العدل والإحسان" وبناته وأصهاره وأقرباؤه هم "المجلس الإداري" للشركة، وبذلك يستفيدون سياسيا وماديا حسبما جاء في مقال لفاروق نزارلي.
أما أبناء الحركة الإسلامية وقياداتها، فهم وإن كانوا يأخذون على الرجل تغليب المنزع الصوفي والمبالغة فيه لتفسير الوقائع السياسية وفقه رؤياه، فإنهم يحفظون للرجل ثباته في مواقفه السياسية ورغبته الأولية في توحيد العمل الإسلامي قبل الدعوة إلى تكوين "الجمعية الخيرية الإسلامية" قبل أن يغير اسمها إلى جماعة العدل والإحسان.

هسبريس

0 التعليقات:

إرسال تعليق