الجماعات المنظرة.. (أتباع آلهة الميثرا)

لطالما حاولت أن تبرهن أدبيات الرومان أن الانتماء إلى طائفة (الميثرا) يهذب أخلاق الإنسان, فقد ورد في تلك الأدبيات أن أتباع تلك الطائفة أناس يمكن الاعتماد عليهم, صادقون وذو أخلاق عالية وخير ذليل على ذلك أنهم يتقبلون توبيخ أعدائهم بروح التسامح !!
فقد وبخ تيرتوليان مجتمعه في كتابه الموسوم (دي كورونا) ولفت أنظارهم إلى تعاليم الميثرا طالبا منهم الاقتداء بها حيث قال مخاطبا زملاءه المحاربين
"يجب أن تشعروا بالخجل عند مواجهتكم لأي جندي من طائفة الميثرا فعند أانتماء العضو إلى تلك الطائفة في الكهف يعرض عليه التاج ولكنه يرفضه بازدراء وينذر نفسه لخدمة عقيدته فلقد أستطاع الشيطان عن طريق ولاء أتباعه من جعلنا نشعر بالخجل من أنفسنا"
-------------
أصل الميثرا
اعتبرت (الميثرا) من أقوى الظواهر التي اجتهدت المسيحية في روما على القضاء عليها, وهي ديانة اعتنقها المحاربون العائدون من الشرق.. حيث انتشرت عبادة الميثرا من موطنها الأصلي بلاد فارس إلى عدة أقطار وحواضر العالم القديم, واستطاعت الوصول إلى بابل واليونان وانتهت بروما حيث اصطدمت بالمسيحية عند بداية انتشارها كديانة للدولة, واستطاعت المسيحية كديانة أخلاقية أن تنافس غريمتها وتنتصر..
ورغم ذلك ظلت هناك فئة تعبد أله النور في أوروبا, بل وكان لها معابد وأحدها لزال في لندن.

الميثرا في الأصل جني ويمثل إله النور وحامي الحقيقة وعدو الظلام عند الفرس ويمثل الدنيا وقوة غير مرئية تحكم شؤون البشر. وأتباعها يعتبرون أنفسهم الوسطاء بين الإنسان وآله النور عند الفرس وهذه الديانة هي جزء من ديانة أهور- امزدا الخالق الأعظم الذي كانت ديانته منتشرة في يوم ما من الهند إلى سورية.
وكان أتباعها يؤكدون أن عبادتها تمكنهم من النجاح الدنيوي والأمان والسعادة في العالم الآخر.. وتطور الأمر مع أتباع ذلك الجني إلى الإيمان بأنها ليست جنيا واحد من ضمن مجموعة من 28 جنيا في خدمة ديانة اهور-امزدا, وإنما الميثرا الجني الوحيد الذي يحقق رغبات الناس ويلبي احتياجاتهم..
عمر هذه العبادة يتجاوز 6000 سنة , بعمر أهورا- مزدا الذي تشتت أتباعه على يد أحد ممثليه, والذين كانوا من الشعوب الآريين القدماء, ولا تزال التنقيبات الأثرية تكشف كل يوم سرا من أسرار تلك الديانة التي امتدت كما أشرنا من الهند إلى سورية, وتعتبر طقوسهم أكثر شيء يمكن من خلاله قراءة طريقة تفكير أتباع تلك الطائفة وطقوسها السحرية..
وتتميز الطائفة باستخدامها لثلاثة أشياء :
التاج الذي يرمز إلى الشمس والقوة ذات الطبيعة الخارقة.
والمطرقة التي ترمز إلى النشاط الخلاق للإنسان.
والثور الذي يرمز إلى الطبيعة والرجولة والإخصاب.
وبإدراك رموز تلك الأشياء يؤمن أتباع تلك الطائفة بأن بمستطاع الإنسان تحويل محيطه بحيث يصبح ذا شأن وناجحا وقادرا على أن يحقق رغباته وأن يتمتع بالسعادة في العالم الآخر بعد الموت.

لكن ماذا يتعين على المؤمن بتلك الطريقة أن يعطي مقابل ذلك؟

-----------------
ببساطة عبادة مبادئ تلك الديانة !!
والتي تسيطر على مصير أتباعها وتحاصر خياراتهم.. وتلك التقيدات التي فرضت على قبول الاشخاص أتباع للميثرا كانت أحد الأسباب التي أدت إلى فقدان تلك الطائفة لأهميتها. فهي كانت بشكل ما ديانة للنخبة, وحدد أعضائها بالأشخاص الذين يعتقد بأنهم مؤهلون لاستسلام البركة التي تأتي عن طريق الايمان بمعتقدها, واستخدام ذلك الايمان لتسخير القوى السحرية التي يشرف عليها كهنة تلك الطائفة (المثرا) وهكذا كانت عبادة لنخبة مختارة من الميثرا نفسها كي يكونوا أتباعا ووسطاءا للعامة.
أما المسيحية فكانت مفتوحة أمام الناس (رغم أن ديانة النخبة عادت مع الغنوصيات المسيحية ولم يكن من السهل إدراكها أو الوصول إليها من قبل الجميع حتى زمن متأخر).
رغم هذا فقد طبعت الكثير من طقوس الميثرا الاحتفالية طقوس الكنائس المسيحية, واتفق المتخصصون على أن الجانب الطقسي للمسيحية قد أستنبط الشيء الكثير من طقوس آله الشمس عند الفرس.
----------------
درجة الارتقاء لدى الطائفة
أدنى درجة للانتماء بتلك الطائفة تكنى ب(السر المقدس), ويمكن لأي فرد الانتماء لتلك الدرجة. ومن الناحية النظرية تعني قبول أي شخص يمكن الاعتماد عليه في حفظ السر.
حين يتطور إلى متعبد دائم ومخلص وينتقل إلى درجة (الغراب) وترمز حسب المعتقدات أتباع الميثرا ممات أحد أعضاء الطائفة وانبعاثه كإنسان جديد.
وممات ذلك الفرد يعني نهاية حياته كإنسان غير مؤمن ونهاية ولائه إلى المعتقدات السابقة غير المقبولة.. واستخدام كلمة الغراب ربما استنبط من ممارسات الفرس القديمة بتعرض موتاهم للغربان لنهشها.

وما تزال طائفة الزرادشتيه تمارس هذه الطقوس في الهند حيث يتركون موتاهم في العراء لنهشها من قبل الغربان والطيور الجارحة الذين ما يزالون يؤمنون بالديانة الفارسية التي بشر بها زرادشت.
لم يكن الغراب يرمز فقط إلى الموت بل كان المندوب المخول بحمل جسم الإنسان بعد الممات, وهذا يعني أن مرتبته فوق البشر, وبهذا كان يرى أتباع الطائفة أنفسهم أعلى من مرتبة الإنسان العادي.

ومن الطقوس التي يتبعها أتباع طائفة (الميثرا) هبوط سبعة سلالم إلى المعبد الذي صمم على هيئة كهف حيث تجري فيه طقوس الانتماء إلى تلك الطائفة. وتبدأ الطقوس كالتالي :
يطارد المرشح الذي يرغب في الانتماء للطائفة من قبل كهنة متنكرين بجلود حيوانات وحشية وعلى هيئة شياطين وبجميع الأشكال التي تثير الرعب في نفس المرشح.. وقبل نزول الكهف, يتعين على المرشح الصوم لمدة ثلاثة أيام وفي حالة الوهن بين الصيام والمطاردة, يقوم الكاهن بإلقاء محاضرة عليه يبين له فيها المسؤوليات الملقاة على عاتقه..
ومن بين تلك المسؤوليات قصر استخدام أخ على أتباع الطائفة فقط وقطع الروابط العائلية وتكريس نفسه للقيام بواجباته على الوجه الصحيح كعابد للميثرا.

وتجري الطقوس الأخيرة وسط قرع الصنج والطبول ورفع الستارة عن تمثال الميثرا الذي يظهر على شكل رجل يرفع ثورا من ساقيه الخلفيين وفي تلك اللحظة يشرح للعضو الجديد دلالة الرموز في تمثال ميثرا..

فالثور يمثل الغرائز والإخصاب وعن طريق الابتهال إلى الميثرا يصل الإنسان للتغلب على تلك الغريزة وعليه فإن السر في ديانة الميثرا يتلخص بضبط النفس والجسد لأجل سيطرة المرشح على نفسه وعلى الآخرين.
(آلية السيطرة على الغرائز الجنسية وتحويلها إلى القنوات الروحية لدى أتباع الميثرا, شبهها الباحثون بطريقة المدارس الصوفية الأخرى التي تؤمن بضبط النفس والجسد لأجل إظهار القوى الكامنة لدى الفرد. وهم يختلفون في تلك الناحية عن المدارس البدائية الأخرى الأقل أهمية والتي يشكل الانغماس في الملذات والغرائز الجنسية جزءا من عبادتها في مراحل الارتقاء العليا).

بعد المثول أمام ثمتال الالهة يتناول المرشح قليلا من النبيذ بواسطة الصنجة التي أستعملت في تلك المراسيم.. بعد ذلك يصاحب المرشح الكهنة الذين سيباركونه متقدمين نحو الصحن الداخلي للمعبد لتناول رغيف الخبز في الوقت الذي يشاركه الركوع مجموعة من الأعضاء على جانبي المقاعد الحجرية الواطئة التي تعترض الكهف السري.. ويوضع فتات من رغيف الخبز اليابس على الطبلة المشابهة للطلبة التي قرع عليها أحد الكهنة بنقر خافت.
ويتناول العضو قطعة من فتات الرغيف كإشارة لقبوله بالديانة الميثرا كمصدر لطعامه, مع العلم أن رغيف الخبز الذي تناوله من فتاته المرشح كان قد ثم تعريضه لأشعة الشمس لامتصاص بعض خواصها, وبهذا يكسب المرشح خواص الشمس نفسها بتناوله الفتات !!

ويطلق على المرحلة التالية من الطقوس أسم (القسم), حين يكون المرشح جاهزا نفسيا مع حالة النشوة والتجلي وهو يعتقد أن تمثال الميثرا يحمل حياة بداخله وأنه قبل به كخادم له بعد تقديمه الخبز والماء أمامه قاطعا وعده بخدمته بكل ما يمنح له من أدوات.

وتبين درجة (الجندي) بأن الفنون العسكرية كانت مسئولة لدرجة ما عن قوة ونفوذ أتباع الميثرا في بلاد فارس القديمة وليس هناك ادني شك في أن المحاربين الرومان الذين شكلوا جزءا كبيرا من صفوف تلك الطائفة خلال توسعاتهم في الغرب, قد أعجبوا بدرجة الجندي في تلك الديانة, وكانت سببا في انجدابهم إلى عبادة الميثرا..

وفي تلك المراسيم أيضا ترسم علامة مشابهة للصليب ترمز إلى الشمس على جبهة المرشح للانضمام إلى الطائفة إذ تعني تلك الإشارة أنه أصبح تابعا إلى الإله. ويوضع أمام المرشح تاج متدل من طرف سيف, ولكن يتعين على المرشح أن يأخذ التاج ويضعه جانبا, مرددا أن ميثرا وحدها هي تاجه.

وفي تلك المرحلة يتعين على المرشح القيام بقتال تمثيلي قد يؤدي بحياته أحيانا .. وبعد فترة من الزمن على مروره بمرحلة الجنود تتم الترقية إلى درجة الاسد, حيث يقاد إلى نفس الكهف ويسكب على جبينه وحاجبيه العسل هذه المرة وليس الماء كما حدث في أول تعميد له..
ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا من نذروا أنفسهم لخدمة الديانة وينقطع الأشخاص الذين يحتلون تلك المرتبة عن الحياة الاعتيادية تماما, فالشخص الذي يحمل مرتبة الاسد يعتبر بمثابة راهب حيث يتم تدريبه على طقوس تلك الديانة كما يتم اطلاعه على بعض الأسرار.

وتمنح درجة الأسد عندما تحتل الشمس برج الأسد (21 يوليو إلى 20 غشت), وذلك خلال شهر الأسد عند الفرس.
و يؤمن بشدة أتباع هذه الديانة أن هناك سحر تنجيمي في ديانة الميثرا إضافة إلى مزيج من صفات الاعداد الباطنية, فالفرع اليوناني لطائفة الميثرا على سبيل المثال أستنتج أن العدد المساوي لكلمة ميثرا والتي تلفظ عندهم ميترا هو 365, وهذا عدد يقابل عدد الايام الشمسية ..
والغريب أن أتباعها أمنوا بأن إسمها في حد ذاته فيه شيء من السحر وأي درجة يحتلها العضو في الطائفة تمكنه من قوى سحرية, فإذا ما أراد الشخص تحقيق شيء ما يتعين عليه التركيز على الميثرا كقوة بحد ذاتها وأن يهيء نفسه لطقوس القرع برتابة الطبلة والصنجة.. وهذا شيء شبيه بما يسمى بالليلة لدى أتباع الاضرحة والحضرة..

هناك سبع درجات في طائفة الميثرا وخمس درجات في فروع النشوة لتلك العقيدة وبذلك يصبح مجموع الدرجات إثنى عشر درجة, فبعد درجة الاسد يأتي (الفارسي), (مسير الشمس), (درجة الاب), (أبو الاباء), وغيرها من التسميات لكن تبقى الدرجة الثانية عشر (ملك الملوك) حصريا لشاهنشاه ملك ملوك فارس.
وتبقى عقيدة الميثرا المنبع الام لعقائد العديد من الجمعيات السرية التي مازالت قائمة بقوة إلى يومنا هذا.. وصدرت تعالميها من الناحية التنظمية أو طرق التجنيد التي كانت تهدف إلى خلق تجربة حقيقة أو خيالية لدى أعضائها توهمهم بأنهم لديهم قدرات على الاتصال بقوى خارقة حصريا..
حيث كانت تعتمد على العنصر السحري وإيمان أتباعها بالقوى الخفية التي تبنوا عبادتها حتى تمنحهم الوصول إلى ما لايستطيعه البشر العادي !!
لم تتعارض الميثرا مع أهداف المجتمعات التي تزدهر فيها, لذلك لم تهدد أي نظام شاعت فيه, كما كانت متسامحة مع المعتقدات الاخرى ولم تحاول قمعها.
ومن أكبر احتفالات الميثرا ولادة الشمس الذي يصادف في الخامس والعشرين ديسمبر والذي أصبح عيدا لدى المسحيين
مثلما استوعبت العديد من تعاليم الميثرا وقبلت ببعض التعاليم الخارجية التي حولتها فيما بعد لاستخداماتها الخاصة..

0 التعليقات:

إرسال تعليق