لقد حاول العديد من الباحثين إعطاء تعريف لماهية الجمعية السرية, إلا أنه لم يتم التوصل إلى مفهوم محدد لها و ذلك لأن كل جمعية كانت تختلف في أيديولوجيتها وطقوسها التي قد تكون تحمل في طياتها أفكار وهدف ثابت ونبيل أو تكون عكس ذلك فتصبح مجرد تجمع للعدد من الأشخاص يعانون من مشاكل نفسية وسلوكية تتماشى مع هدف من يحركهم لصالحه تحت غطاء لفكرة عقائدية ما. لهذا فالتعريف الذي يعطى لجمعية معينة قد لا يناسب جمعية أخرى.
ولا تحاط تلك الجمعيات بالضرورة بالسرية, فهناك العديد من الجمعيات تعلن عن نفسها وأهدافها وأعدائها ويكون أعضائها التنظميون معروفون لدى الجميع كما هو الحال لدى جمعيات النازيين الجدد والماسونية والقاعدة, فأفكارهم وتعاليمهم هي في متناول الجميع. وأحيانا لا تكون تلك الجمعيات تحمل في طياتها أهداف ضد سلطة معينة كأتباع الأضرحة في المغرب, وإنما تكون تلك التجمعات لصالح مريديها, ولممارسة شعائر, لها رواسب وجدور ثقافية لم يستطع لا الدين ولا المذاهب الدخيلة من القضاء عليها فتضل ممارسات من الموروث الشعبي شبيهة في طقوسها إلى حد كبير بالطقوس التعبدية الوثنية البدائية.
فالجمعيات السرية تتخد لنفسها نظام ذاخلي ومهام لأعضاءها, وتستخدم إشارات وكلمات سر وأمور متشابهة خاصة بها تميزها عن الأخرين, رغم أن هذه الأشياء هي من أساسيات أي نظام في أي مكان حاليا, فاليوم لا يمكن الدخول إلى الكثير من الشركات دون بطاقة ممغنطة تحمل الرقم الخاص بالموظف, والذي بدوره لم يصل إلى آلة التسجيل إلا بعد المرور بعدد من حراس الأمن المحترفيين بباب المؤسسة حيث تفهم سريعا أن المكان ليس مفتوح للعموم, وهذا الشخص يحمل في الوقت نفسه شعار لتلك المؤسسة على ملابسه وأينما استدار يجد اللون الخاص بالمؤسسة ويتبع نظام ذاخلي صارم خاص بها.
إلا أن ما يميز الجماعة السرية عن تجمع منظم هو فكرها وهدفها الغير معلن حيث يحدده التدريب الذي يتلقاه أعضائها للعمل في إتجاه معين يكون في الغالب ضد اتجاه وفكر النظام المضيف لتلك الجماعة, فيكون بذلك نشاطا غير مرغوب به في ذلك المجتمع, فيتم إحاطته بالسرية للحفاظ على ذلك التجمع, وحين تصبح معتقداتها تمثل غالبية المجتمع أو حين تنجح في الوصول إلى هدفها, تتحول إلى نظام اجتماعي طبيعي يمارس في العلن, فتسقط عليها صفة الجماعة السرية كما حدث في ثورات الاشتراكيين ضد الملكيين في القرن الماضي وثورة الخميني في إيران وكذلك تنظيم طالبان في أفغانستان.
يقول الباحث أركون دارول في كتابه (الجمعيات السرية بين الأمس واليوم) (تعد الجمعيات السرية غير اجتماعية وذلك لاحتوائها على عناصر بغيضة ومؤدية للمجتمع. هذه بدون شك الصورة التي تتركها الجمعيات السرية لدى الفرد بعض الأحيان.. حتى المسحية كانت في يوم ما جمعية سرية في روما وعدتها السلطات في بداياتها بدعة خطيرة والشيء نفسه ينطبق على الإسلام. ويمكن القول بأن بعض المؤمنين بتلك المعتقدات من الذين كانوا يمارسون نشاطهم في السر كانوا في الواقع مؤمنين مخلصين مادامت أنشطتهم وممارستهم تتم لصالح المجتمع. وينظر العرب إلى الصهاينة على أنهم يمثلون جمعية سرية خطيرة مكرسة لتهديم العالم أجمع. وينظر الدروز في سورية واليزيدية في العراق إلى العرب النظرة نفسها. كما أن الماسونية والكاثوليك يحملون الأفكار ذاتها تجاه بعضهم البعض).
فالجمعية لابد لها من قاعدة دينية (ويمكن اعتبار الإلحاد والردة أيضا دينا في حد ذاته) وأيديولوجية تبحث دائما لها عن عدو يبرر أهدافها ويعطيها مصداقيتها, وهنا يقول الباحث في نقس الكتاب :
(من المحال فصل الدراسة الخاصة بالجمعيات السرية عن الدين بما أن الجمعيات الإجرامية غالبا ما تكون إدعاءاتها دينية,)
فالجمعيات التي ترتكز على أيديولوجية دينية أو حتى الأقليات التي تبني فكرها على قوة القومية الموحدة التي تنحدر منها داخل مجتمع لا يتبنى رأيها, في الغالب ما تحاول أو تمارس بالفعل نشاطها كدولة داخل دولة, وتكمن خطورتها حين تستغل تلك الجماعات من أطراف أخرى كأداة لتحقيق أهدافها على الخريطة السياسية للمنطقة التي تظم تلك الجماعات, مقابل تمويل ومساعدات لوجستية ومعلومات استخباراتية, وفي الغالب تصبح تلك المناطق باعتبارها مناطق توثر يصعب تعاون ساكنيها (الحذرين دائما من النظام) مع الآمن, إلى مناطق للتجارة السوداء والتهريب.
والتطور الطبيعي لتلك الجماعات حين تتسلح أن تتحول إلى جماعات إرهابية.. أن تصطدم بالجيش النظامي للدولة الذي يحاول القضاء عليها نهائيا باعتبارها جماعة متمردة أو تنظيم إجرامي مسلح مس سيادة الدولة وأمن المواطنين, فكلما زاد يأس تلك الجماعات في السيطرة على مواقعها زادت معها العمليات الإرهابية التي تستهدف الأماكن الرسمية والعامة دون تمييز كمحاولة للتصعيد وبالتالي الضغط للحصول على فرصة أخرى للتفاوض على الهدنة لإعادة تنظيم صفوفها أو الخروج بامتيازات إذا أعلنت الاستسلام.
كل الجمعيات السرية تحولت رسميا إلى العلنية حسب الباحثة في شؤون الجمعيات السرية ماري فرونس سنة 1901, حيث وجدت في الحركات التحريرية مجالا لنشاطاتها الإيديولوجية والمسلحة أيضا, حيث غالبا ما تنشق عن تلك الجماعات السرية مليشيات مسلحة يؤججها تطرفها لأفكار تلك الجمعية ضد كل المجتمع الذي لا يتبنى أفكارها.
وسمحت تلك الثورات الفكرية كالثورة الماركسية والثورة الاشتراكية والإسلامية والتي نجحت عبر الانقلابات العسكرية في الاستحواذ على نظام الحكم في أكثر من بلد في العالم ونشر أفكارها بالقوة. أو بالإغراء المادي والاجتماعي الطبقي داخل مجتمعاتها بل وحاولت الوصول إلى المجتمعات الأخرى في محاولتها لتصدير أفكارها الثورية أو دينية إليها, ومساعدة خلاياها التي تتحول بسرعة إلى تنظيمات مع الدعم المعنوي والمادي الذي تتلقاه من تلك الأنظمة.
بالمقابل كانت هناك جهات استغلت الفراغ الفكري والديني التي أنشأته تلك النظم للخروج بأفكارها عبر إنتاجات فكرية وفنية ككتاب دافينشي كود (لدان براون) وآيات شيطانية لسليمان رشدي.
كل الرموز التي اتخذتها تلك الجمعيات كانت إما رموز وثنية من عبادة الشمس أو مضادات دينية. واستطاعت بها جدب الكثير من المتحمسين لمعاني تلك الرموز حسب تفسير تلك الجمعيات, ووجدت مجالا جيدا لنشاطاتها داخل المجتمعات الشيوعية أو العلمانية التي لجأت لإبعاد الدين عن سياساتها وعن مجتمعاتها في محاولة لتمجيد قيمة الإنسان وتقديم العلم كبديل, لكن ذلك لم يعوض حاجة الإنسان الفطرية في اعتناقه لدين أيا كان نوعه واحتياجه للتقرب لإلهه.
ولكي نفهم منظومة الجماعة الإرهابية, لبد أن نستوعب كيف يتم بنائها وكيف تضمن تطورها واستمرارها. فكل جماعة تبدأ بفكرة, ولكن كيف تتحول تلك الفكرة إلى تنظيم قوي؟ للإجابة على هذا السؤال لبد من الرجوع إلى ماهية الجماعات السرية, كيف استطاعت تسويق فكرتها وتجميع أتباعها عبر التاريخ البشري.
2 التعليقات:
السلام عليكم.
موضوع مفيد حقا بالمعلومات الواردة فيه لكن السمة الغالبة عليه هو أن القارئ يشعر من سياق الكلام ككل بأن مفهوم الجماعة السرية هو مرادف لكل ما سيئ
تمنياتي لك بالتوفيق.
شكرا على تعليقك سيدي الفاضل, أما عن ملاحظتك فتجد الاجابة عنهافي سياق النص, الجماعة السرية يتغير مفهومها كجماعة مسيئة ولها أهداف خارجة عن القانون بمجرد أن يعتنق أفكارها غالبية المجتمع أو تصل إلى السلطة بطريقة ما..
إرسال تعليق