التنظيمات الهرمية والافقية عبر التاريخ -2- (الدين والسياسة : كمثال الفاتيكان)


السياسة والدين

مند نشأت السياسة, اقترنت بالدين حيث كان )الدين( وسيلة للسيطرة والإقناع, وذلك راجع إلى أن الزعماء الأوليين كانوا رؤساء قبيلة أو ملوك متألهين. و لكي يبسطوا نفوذهم ومشيئتهم على رعيتهم كان لبد من الجمع بين السلطة الدينية والدنيوية, حتى أن بعضهم تقمص دور الإله, ومع تطور الفكر الإنساني وتجربته الإنسانية صار من الذكاء البشري أن يطرح السؤال التقليدي (ائتنا بأية إن كنت من الصادقين), فأصبح الملوك حذرين في ما يقولونه واكتفوا بالقول أنهم ممثلو الآلهة على الأرض, وجعلوا لذلك كهان ماكرين يتولون مهمة شرح ذلك وتحويله إلى واقع من خلال تفننهم في ابتكار الطقوس التي تليق بالإله وممثله على أرضه, من هنا كان يستمد الملوك سلطتهم على الناس, فأي تطاول أو مقاومة فهي للإله الذي يسهل الصيد و آخر ينبث الزرع وثالث يرعى خصوبة النساء, ولو أن الذكاء البشري ارتفع إلى مستوى آخر حين أدرك أن أي تجمع لبد له من قائد وبالتالي لبد من وجود زعيم لتلك الآلهة يلزمها بإتباع قانونه مادامت لا تغير سيرتها المعتادة, ويضمن تجاوبها مع متطلباتهم كزعيم وكبير لكل تلك الآلهة التي كلما زاد تطوره المعيشي وزادت ابتكاراته زادت معها آلهته, وقد أشار القرآن الكريم (سورة الأنبياء : الاية 50 - 67 ) إلى ذلك في سياق حوار سيدنا إبراهيم مع قومه حين قام بتحطيم الآلهة في المعبد (بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون)..

إلا أن نشوء دول ارتبطت بالديانات السماوية قللت من صلاحيات الملك الدينية التي اتخذها سابقا لنفسه وصارت صلاحياته محددة في كونه قائدا لمجتمع أصبح فيه مسؤولا عن تنفيذ شريعة الله و الالتزام بها, وصارت طاعة الرعية له من الواجبات الدينية إذا لم يخل ذلك الملك بالتزامه الديني والدنيوي, كما كان الشأن مع الممالك اليهودية و المسيحية والإسلامية.
لكن تظل أحكام الحكم و السياسة لها دينها الخاص.. فلم يخلو ا التاريخ السياسي اليهودي و المسيحي والإسلامي من وجود لتيارات وجماعات استغلت أحكام الدين لتضفي صفة القدسية على مصالحهم الذاتية وحتى تغير مفاهيم النصوص الدينية لما يمكّنهم من الزيادة في سلطاتهم و يضمن التخلص السريع من أعدائهم الذين كانوا في الغالب من الأنبياء أو المفكرين والعلماء كما كان الحال مع سيدنا عيسى بن مريم (ع) و حاخامات اليهود, وما حدث مع غالليو وابن رشد حين اتهموا بالهرطقة لمجرد أنهم دعوا إلى إعمال العقل دون الخروج عن النص كما أمر الله في كتبه, فمناهضوهم كانوا يجدون في الجهل بيئة جيدة للسيطرة حتى يخفوا ضعفهم باستغلالهم الدين, وإخفاء جهلهم بتعميمه ليصير الجهل واقعا مشتركا بين الحاكم والمحكوم.

وأحيانا حين يكثر الضغط الداخلي للتغيير يتم البحث عن الشيطان خارجا وتحشد الجيوش الجرارة بمباركة رجال الدين, فكانت الكنيسة ترى في المسلمين أتباع المسيخ الدجال المذكور في كتبهم وأن تحرير أورشليم من بين أيدي أتباعه واجب مقدس حتى ينالوا مباركة الرب الذي حسب رؤيتهم ظهرت علامات غضبه عليهم, فساد الجوع والمرض, وقلت الأموال, لتخاذلهم في واجبهم المقدس والشهادة.. وكان الأمر ذاته لدى المسلمين الذين كانوا يؤمنون بالحاكم العادل البطل, الذي تجتمع فيه الشروط الشرعية للخلافة و كريزمة طاغية تجتمع بها عليه الأمة, ولكي يثبت ذلك لبد أن ينجح في تحرير أراضي الإسلام والأراضي المقدسة وتوحيد الأمة وضمان العدل والأمان وتأمين الأقوات وملئ بيت المال, ولكي يتأتى ذلك كان لزاما القيام بحملات ضد الرومان و الإفرنجة الذين ينافسون البلاد الإسلامية في السيطرة على طرق القوافل التجارية بعد احتلالهم لبعض الثغور الإستراتجية والأراضي المقدسة وطرق الحجيج.

ويمكن اعتبار ما حدث في العصور الوسيطة تطورا لمفاهيم السلطة الدينية التي أوجدت شكلا منظما للسياسة والحكم, اعتمدت فيه على أيديولوجية دينية لتبرير نظامها وهيمنتها وتمكنها من تحريك العامة والخاصة, باعتبارها مجموعة من القيم والمعتقدات التي تشكل دعائم نظامها الاجتماعي, وهي أيضا المحرك العقائدي القادر على التعبئة والتحريض السياسي الذي لا يستلزم مجهودا في الإقناع ولا البحث عن منطق في أهداف الساسة أو حتى ربطه بأي واقع موجود.

وكلما اجتهد هؤلاء الساسة في إثراء أيديولوجيتهم وإعطاءها صفة الواقع (الذي تكثر المطالبة في تغييره) وتقديمها على أنها المخرج الطبيعي والوحيد, تحولت إلى مذهب وجد من يؤمن به ويدافع عنه, وكلما اتسعت قاعدة المؤمنين بذلك المذهب ويقينهم به صارت لذلك المذهب قوة إذ يتحول إلى عقيدة مادام قد استحوذ على مصادقة الغالبية في ذلك المجتمع وحصل على مصداقيته بشكل تلقائي.

وقد ساهم هذا بشكل ما في خلق هوة ثقافية بين المسحيين الأوروبيين والمسلمين, فصار كل طرف يرى في
الآخر ذلك العدو النموذجي الذي لا يغيب عن أجندة الحكام السياسية ولم تكن سوى مصالحهم التجارية ما
يجبرهم على التفاوض والمصالحة التي تنتهي من جديد بتحرك عسكري من أحد الطرفين.
فعدم التبادل الثقافي الرسمي كوّن صورة راديكالية عند كلا الطرفين للآخر, حتى الفرصة المثالية في ذلك التبادل الثقافي والتي تمثلت في نشوء الدولة الإسلامية في شبه الجزيرة الإيبيرية على يد عبد الرحمن الداخل و كانت علوم جامعاتها أساس النهضة الأوروبية, قضت عليها مفاهيم الساسة, وثم القضاء على كل ما يشير إلى الثقافة الإسلامية باستثناء العمران والمكتبات التي دخلت في خانة غنائم الحرب, لا على أنها إرث ثقافي.


.
التوظيف السياسي للدين


الكنيسة والبابوات.. الكنيسة والسياسية
بعد سنة 393م استطاعت الكنيسة أن تستحوذ على السلطة المعنوي على الحاكم والمحكوم حين أصبحت الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية. فطالبت بما لله وتحديد ما لقيصر, فبين الواجب الديني الذي يتمثل في طاعة الله والدنيوي الذي يملكه قيصر, رأت الكنيسة أن الكل لله, وأن السلطة الدنيوية خاضعة لسلطة الله وأن وجودها مؤقت واحترامها واجب ديني لأن الله وضعها في يد من شاء, ليكون خادما له وتكون الرعية مطيعة لله ولذلك الشخص كما يقول القديس بطرس (أن الله أحق من الناس بالطاعة). فكان تمرد الكنيسة عن سلطة الدولة يتم بشكل تدريجي إلى أن ضمنوا سيطرتهم على المؤمنين المسيحيين, فأصبح الإمبراطور يتبع للكنيسة في كل ما يخص الشرائع, وسحبت منه صلاحيات الحكم فيها وتم إرجاعها إلى الكنيسة لتقرر فيها كما منع من التدخل في شؤونها ورأوا أن إرادة الله شاءت في أن يكون القساوسة وخدام الكنيسة بعيدين عن القوانين المدنية ويكونوا تابعين لرجال الكنيسة فقط, كما جاء في أقوال البابا جلاسيون.
أما القديس أغسطين الذي كان فكره يعتبر مرجعا للرد على كل محاولة للتمرد عن الكنيسة, فرأى أن الدولة لا تأخذ معناها الكامل إلا إذا قامت على أسس من التعليم وأن تحافظ على سلامة العقائد وبالتالي عليها أن تكون دولة وكنيسة في نفس الوقت فقال (إن العدالة الحقيقية لا توجد إلا في هذا الشيء العام الذي يعتبر المسيح مؤسسه وحاكمه).
ولم تتوقف الكنيسة في سحب كل السلطة إليها, إلى أن جعلت لها سلطة تتويج الملوك راكعين على أقدامهم وحتى حق عزلهم وحرمانهم من امتيازاتهم.. ولأن القساوسة مهما بلغت درجة قداستهم يعتبرون من البشر القابلين كالجميع للخطأ والصواب فقد, أثرت تلك السلطات المطلقة في يد الكنيسة وابتعادها عن المحاسبة في أي شيء, من ظهور اختراقات بداخلها أفرزت نوعا من القساوسة الذين ساقوا الدين لمصالحهم الشخصية والدنيوية, وسمحوا لأنفسهم بامتيازات وحياة بذخ مستعينين بسلطتهم الدينية المطلقة.
وكقوة متسلطة لا يمكن أن يولد في طياتها إلا العنف والفساد والرشوة والاغتناء للامشروع وأمام انعدام العدل الاجتماعي و أتساع الهوة الطبقية التي مثلتها الإقطاعيات في أوروبا المسيحية, كان هناك إفراز لشكل فكري جديد انقلب على الكنيسة ولم يهدئ في توجيه النقد لها من خلال التركيز على فساد القساوسة وفساد الأفكار التي ارتكزوا عليها لتبرير قراراتهم وأفعالهم, فخلق ذلك ارتدادا على الكنيسة, وتحميلها نصيبها من المسؤولية في إيجاد أنظمة فاسدة يمثلها ملوك نصبتهم الكنيسة وباركت أفعالهم.
فكانت بدايات هذا الانقلاب عليها في نشوء تيارات فكرية وفلسفية مثلها دانتي و آخرون في المطالبة بإصلاح للكنيسة تطور لتنشئ بعده تيارات فكرية تطالب بالتنوير والإصلاحات السياسية, وأصبح تناول الكنيسة بالسخرية يمارس في العلن عبر الإعمال المسرحية وفي طيات الأعمال الأدبية والفكرية, وما كان هؤلاء الكتاب إلا ناطقين بمشاعر شريحة واسعة فقدت احترامها للكنيسة وانتقلت من مرحلة المعاناة من تناقض ما تؤمن به وما تعيشه إلى مرحلة التمرد. وانتهت حالة الغليان تلك بثورات متلاحقة, أعادت الهيكلة الاجتماعية لأوروبا بالتدريج, وفصلت الكنيسة عن السلطة أو في ما يصطلح عليه اليوم بالنظام العلماني(1).
----------------------------------------------------------------
(1) و يجدر بي هنا أن أشير إلى ما خلقه هذا المصطلح من إشكالية داخل المجتمعات الإسلامية الحديثة, حيث تم استقباله عبر ما تفسره الجماعات الإسلامية و بعض التيارات الفكرية لهذا المصطلح, فجعلوا منه أداة للهجوم والتحريض, إلى أن العلمانية كنظام ليس بشيء خارج عن شكل المجتمع الإسلامي, فالفقهاء وعلماء الدين كانوا يعتبرون من الرعية كغيرهم ولا يختصون إلا بما يمتلكون من علم للإفتاء والاهتمام بالشرائع السليمة للدين الإسلامي, وكان يهتم بتطبيق القانون قضاه متفقهون في الشريعة التي تمثل القانون المدني والجنائي والتي استقت منه الدول الإسلامية قوانينها أيضا ثم لتنفيذ تلك الأحكام كان هناك جهاز أمن تابع للدولة, وكان هناك ممثلون لكل قبيلة وعشيرة يتقدمون للخليفة بالبيعة فتكون قد قامت بواجبها الانتخابي, وهناك مجلس للعلماء والعسكريين يستفتى من طرف الخليفة, عند كل أمر يستوجب المشورة وهذا ما يسمى في وقتنا الحالي بمجلس الشورى.. كما أن العلمانية سبقت العقل عن الدين في تقرير مصالح مجتمعاتها وهذا شيء شهده المجتمع الإسلامي في عهد النبي والخلفاء الراشدين, كمجادلة أحد النساء الرسول (ص) في مسألة مظاهرة الرجال لنسائهم, ووقف عمر بن الخطاب لحد السرقة أيام المجاعة.
فأين هي هذه العلمانية التي يجب أن تكفر بها الأنظمة؟!! فما هي إلا بضاعتنا ردت إلينا!!

الكنيسة والمؤمنين

عندما وصل القديس باطرك إلى إرلندا ليتمم واجبه المقدس في التبشير برسالة سيدنا المسيح (ع), وجد عائقا مهما أمامه, تمثل في إيمان سكان تلك الجزيرة بما يعتقدون في الديانة السلتية الوتنية بنفس حجم إيمانه هو بالله الواحد خالق العالم والبشر والمسيح (ع), فالمجتمع السلتي بثقافته الوثنية كان يصعب عليه إستيعاب أن هناك خالقا واحدا وليس أكثر ورأوا في الديانة التي جاء بها القديس باطرك ديانة ناقصة بالمقارنة مع ديانتهم, فما كان منه إلا أن اتبع الاسلوب الروماني في عولمة الديانة, فقدمها من جديد في قالب سلتي لتحتل كل آلهة بشكل طقوسها وخصائصها مكان شخصية مقدسة في الديانة المسيحية, فكان الإله السلتي هو الله عز وجل, وكانت الإلهة السلتية السيدة مريم العذراء عليها السلام, وكان تجسد روح الإله السلتي في الكهنة الشمانيين هو تجسد الله عز وجل في جسد المسيح عليه السلام, و تجسد الروح في جسد القربان البشري الذي كان يربطه الكهنة الشمانيون ثم يغرقونه في ماء النهر أو البحيرة ثم يتم ذبجه وبقر بطنه لإخراج كبده وقراءة ما تقوله روح ذلك الإله هو عذاب المسيح وتكفيره لخطيئة المؤمنين بمقتله على الصليب, ثم طقس الطعام المقدس لتعميد الكهان والأتباع في أكل لحم القربان وشرب دمه المسفوح هو النبيد الأحمر والخبز الذي يمثل جسد المسيح (ع) ودمه, وحلت عبادة الينبوع مكان التعميد المسيحي بالماء.
وقد كان رد فعل البابا حينها هو توبيخ القديس باطرك لما فعله من تشويه للمعتقد المسيحي باختلاقه لقصص تنسجم مع الفكر الوثني, فكان رد القديس بطريك هو إصراره على ما فعل فمن وجهة نظره قد ابتكر طريقة عملية لنشر الديانة المسحية بين الشعوب السلتية المستعصية على السيطرة الرومانية, ومع النجاح الذي أتى به أسلوب باطريك, تحولت فكرته المبسطة للدين إلى جزء من الديانة المسيحية تقدم لشعوب الامبرطورية لضمان أتباع مؤمنين ومخلصين بإرادتهم وليس بإرادة القيصر حتى يتوقفوا عن ممارسة دياناتهم الوثنية في السر أو الارتداد عن المعتقد المسيحي الذي يضل معتقدا جديدا لا يقوى على الوقوف أمام معتقد قرون سبقت لتلك الشعوب.
فصار المؤمنون الجدد يروا في القسيسين ممثلين لآلهتهم الجديدة ووسيلتهم الوحيدة للاتصال بها, بدل أن يروا فيهم مؤمنين مخلصين يربطونهم بالمعرفة الدينية والطرق الأقرب للإيمان الصادق, فتحولت بذلك السلطة المعنوية التي كان يتميز بها الكهان على شعوبهم إلى أيدي الكنيسة وخدامها, وربما هذا خلق لدى الكنيسة رؤية جديدة لنفسها وتطورت رؤيتها لتلك الشعوب, فتجاوزت تطلعاتها البحث عن نشر الديانة المسيحية إلى السيطرة على قرارات القيصر بجيوشه حين انتشرت الديانة المسيحية في أرجاء الإمبراطورية, وتكريس قانون جديد للسلطة استمدته من القدسية التي أفرزتها تبادل تمثيل الأدوار الدينية داخل المجتمعات الوثنية.

في عام 692 قامت الكنيسة بإدخال بعض العبادات السرية في طقوسها حيث نصحت أتباعها بإقامة بعض الصلوات في السر, ويمكن تقصي ذلك في الكنيسة الارثذكسية إذ يقوم الرهبان بالصلاة وراء الستارة ولاترفع إلا بعد أن يتسامى الحشد حيث ينشغل في تلك اللحظة المصلون في صلاتهم متناسين مراسيم القداس التي تكون موجهة لشريحة أخرى قدمت إليها المسيحية في طبق آخر. والتفسير الذي أعطي للسرية التي أحاطت بممارسة الديانة المسحية هو أن القادم إلى قداس الكنيسة يجب أن يكون مهيئا للمفاجآت.
ولقد جاء القديس أوغسطين بتلك الممارسة السرية وفسرها بالقول (أولا إن الاسرار الغامضة التي تحيط بالديانة المسيحية أبعد من تفكير الإنسان وذكائه ولهذا يجب ألا يسخر منها الأشخاص غير المعمدين, ثانيا أن تلك السرية تضفي وقارا على الطقوس, ثالثا ضرورة زيادة حب الاستطلاع لدى المشاهدين لكل ما هو مقدس لكي يمر بالتجربة المسيحية).
أما سانت باسيل فيصف في الفقرة (28) من كتابه (الروح القدس) كيف كان يوجه القسسين في الكنيسة بحفظ خفايا الإسرار في أذهانهم وعدم نشرها في الكتب حيث أن نشر العقيدة في الكتب قد يمكن أشخاصا غير معمدين من الاطلاع عليها.
لكن إذا رجعنا إلى بداية السيناريو الذي قام فيه القديس باطريك بالدور الكبير سنجد, أن الكنيسة اتخدت أسلوب الكهان الوثنين الفراعنة والسلتين وكهان الهندوس في نقل علومهم الكهنوتية إلى المختارين من أتباعهم, حيث كان طلبتهم يتم اختيارهم بعد المرور بامتحانات عسيرة لضمان طاعتهم وعدم التفريط في العلوم التي سيتم نقلها إليهم حيث تقدم لهم على مراحل زمنية وتدرجهم في رتب مناصبهم, فتجاوزت بذلك دورها وواجبها الديني بدءا بالكذب و إنتهاءا بالحفاظ على تلك الكذبة على أنها الدين الحقيقي الذي جاء به المسيح, فكان إخفاء تعاليم المسيحية عن الإتباع وحصرها في يد القسيسين وإتباع بدلا منها أساليب وثنية في تقديم المعلومة الدينية والموعظة للمؤمنين, جزءا من فصل الشعوب عن مرجعيتهم الدينية الممتله في الله الواحد الخالق وبناء باب بالكذب المستمر ما بين الله والمخلصين المسحيين وإيهامهم بأنهم كخدام للكنيسة يمثلون ذلك الباب إلى الله بمعرفتهم الدينية التي لا تستطيع قدراتهم العقلية إستعابها لأنها تتطلب مجهودا في التعبد والطاعة ثم بعدها قبول الله لتلك الطاعة ومعها هبة التمكن من تلك المعرفة وهي لمن اختاره من عباده وليست للكل.
وحتى كلمة "اختيار" هي من الكلمات التي كان يستعملها الكهنة الوثنيون في إعلانهم عما أخبرهم به الإله فيقولون الإله اختار هذه الأرض لبناء المعبد او الإله أختار هذا اليوم لقربانه.. وربما هذا ما يلاحظ في الرسالات الموجهة من الكنيسة حيث تقوم مقام كلمة "اختار" كلمة "شاء الله" و"مشيئة الله" , وفي القصص الموجهة إلى العامة تقوم كلمة اختار.
وهنا يجب أن نفترض أن المتلقي للاهوت المسيحي في الماضي, يلقن ما هو أصلي وما هو موجه للعامة, وكجزء من الايمان الذي يجب أن يتمتع به ذلك المتلقي, كان التفسير الذي يعطى له من خلال فكر أغسطين ومن أسسوا لتلك الفكرة داخل الكنيسة, كافيا لإقناعه بأن هناك معرفة للخاصة ومعرفة للعامة لأن مستوى الذكاء و الإدراك لدى العامة لا يمكن أن يستوعب تلك المعرفة!!

نهاية سلطة الببوات

تعاظمت ممارسات الببوات المستبدة بشكل مستمر, وصارت إجتهادات البابوات تعاليم مقدسة, خصوصا خلال القرون الوسطى وبالتحديد في القرن الثالث عشر حيث صار البابا هو الحاكم الحقيقي وتحولت الممالك إلى ملحقات للكنيسة, لاتبث في شيء ديني كان أو دنيوي إلا بعد عرضه على البابا, لدرجة أعلنت الكنيسة فيها أن غفران الله صار يصدر بصك عن البابا, ويستطيع هذا الأخير حرمان أي شخص منه!!
ففي سنة 1300م أعلن البابا بونيفاس نفسه بابا وقيصرا وإمبراطور, مبررا ذلك في بيان قال فيه (لن يتيسر خلاص نفس أو غفران من الخطايا خارج حظيرة الكنيسة الرسولية الكاثوليكية المقدسة, وهي الكنيسة الفريدة التي لا شريك لها ذات النظام الواحد والرأي الواحد, وليست ذات رأيين كالغول, وثمة سيفان روحي وزمني وكلاهما تحت سيطرة الكنيسة, لكن يمسك رجل الدين بواحد ويمسك الملوك بالآخر لكنه يخضع لإرادة رجال الدين.. ذلك لأن أحد السيفين يجب أن يخضع للآخر, بمعنى خضوع الزمني للروحي, بما يقتضيه ذلك من مثول الملك أو الأمير أمام رجال الدين ليحاكم على أخطائه, أما رجال الدين فلا يخضعون إلا الله, لأن سلطانهم مستمد منه وحده).
هذا البيان جرأ الملوك على البابا, وكان من بينهم فليب ملك فرنسا الذي رفض قرار البابا, فرد عليه هذا الأخير بحرمانه من حقه الزمني , فما كان من الملك فليب إلا اتهام البابا بالهرطقة والسحر والفساد الجنسي والاتجار بوظائف الكنيسة ولائحة الاتهام كانت طويلة وأصدر بالمقابل قرارا بالقبض على البابا, ورغم أنه فشل في ذلك إلا أن تمرده نجح في تحريك العداء ضد الكنيسة, وتكرر نفس التمرد المصحوب بنفس لائحة الاتهامات للبابا من لويس دو بافيير الذي حرمه البابا من منصب الإمبراطور وقدمه لفريدريك النمساوي, فدعا لويس بانعقاد المجمع الديني العام والذي أصدر حكما على البابا بالهرطقة, وفي سنة 1338م توج لويس إمبراطورا, بدون الحاجة لموافقة البابا لتتويجه, حيث خضعت الكنيسة لسلطته.
وكان هذا التاريخ بداية للمطالبة بشكل واضح وعلني بإصلاح الكنيسة من الداخل حفاظا على صمعة الدين المسيحي الذي ساهمت ممارسة رجال الدين في زعزعة الثقة في مفاهيم العقيدة وثبات الإيمان لدى المسيحيين, وعرقلت قراراتها التي حجرت على العقول في نجاح السياسة الدنيوية, فكان التوجه لفصل الدين عن السياسة يتنامى بشكل تصاعدي حيث بدأت المطالبة لإعطاء المسيحي حريته في ممارسة دينه كمؤمن بالغ عاقل بعيدا عن وساطة الكنيسة وفتح الكتاب المقدس وتعلم أحكامه التي أرسلت مند البدء إلى كل المؤمنين وليس لتكون رهنا لدى الكنيسة.

بين الفكر اليساري واليمني

انتصرت القوة الزمنية على القوة الروحية وتم فصل الدين عن السياسة, لكن بالمقابل نشأ جيل من اللاهوتيين حاول إعادة الثقة في الدين المسيحي من خلال التبشير وشرح تعاليم الكتاب المقدس للمؤمنين, ومحاولة تحسين الصورة التي رسمها الفكر الأوروبي من خلال مؤلفاته الفلسفية و تنظيراته السياسية وظلت مطبوعة في الذاكرة الجماعية كمرجع يذكر الجميع بخطورة الجمع بين السلطتين, وبالمقابل نشأ هناك اتجاهين صار يهيمنان على السياسة بطريقة غير مباشرة في المجتمع الأوروبي ثمتل في التيار اللائيكي والتيار المتطرف الذي كان يمارس نشاطه في السر ضمن جمعيات تحول نشاطها الديني بشكل مفاجأ إلى نشاط سياسي دون الإعلان في البدء عن توجهها الفكري. وقد ساهم هذان التياران في أحداث كثيرة شكلت أوروبا الحديثة ولازالت تؤثر في مجتمعاتها وتوجهاتها.

إلا أن الأبحاث والدراسات للديانات الوثنية وتاريخها وربطها بالمسحية قبل انتشارها وبعد انتشارها, وتوجه كنيسة الفاتيكان في الاعتدال, حيث فتحث أبواب مكتبتها في القرن العشرين والتي ظلت لقرون مغلقة في وجه العامة وأخرجت أرشيف الرسائل المتبادلة بين البابوات والقسيسين و الحكام, لكي يتعرف المسيحيون على تاريخهم الديني ويحققوا فيه, ما قطع الطريق على التيار اللائيكي في طمس الهوية المسيحية لأوروبا وكذلك الطريق على التيار المتطرف لملئ الفراغات التي أفرزتها التحولات السياسية والاجتماعية في أوروبا خلال القرن العشرين بظهور تيارات سياسية فلسفية بنيت على العرقية أو القومية أو العنصرية, والتي تركت بعد رحيلها فوضى اجتماعية واقتصادية وفكرية يحاول التيار المتطرف استغلالها.

0 التعليقات:

إرسال تعليق