الدين والسياسة -2- (تجربة الخلافة الاسلامية كمثال)




التوظيف السياسي للدين في التاريخ الاسلامي

يمكن اعتبار اغتيال عمر بن الخطاب (ض) الخليفة الثاني للمسلمين البداية العلنية لذلك التوظيف.. حيث برز ذلك التسييس للدين بشكل واضح بعد تولي الخليفة عثمان شؤون المسلمين والتي انتهت باغتياله هو الأخر.. بدأت الفرقة تدب بين المسلمين بعد أن اقترح معاوية بن أبي سفيان على علي بن أبي طالب الاحتكام إلى حكمين بعد موقعة صفين عام 657 م، وأن يعتمد الحكمان على القرآن في حسمهما للخلاف الذي أدى إلى مقتل عثمان. حيث قبل علي بن أبي طالب التحكيم، وانتهت بما أسماه المؤرخون بخدعة عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري. إلا أن قصة خداع عمرو بن العاص تبقى مختلفا عليها لضعف الرواية حسب تصنيف الإمام البخاري للأحاديث والروايات التاريخية.
ونشأت إثر ذلك أول فرقة خارجة سياسيا عن الجماعة الإسلامية مستندة على حجج دينية, وغالبية أولئك المتمردين كانوا من أعراب قبيلة تميم حيث رفعوا شعار "لا حكم إلا حكم الله"، وأقاموا معسكرا لهم في حروراء غير بعيد عن الكوفة. وتعتبر هذه الجماعة التي عرفت لدى المؤخرين بالخوارج, المؤسس الفعلي لفكر كل الجماعات المتطرفة التي شهدها التاريخ الإسلامي مستندين على طريقتها السياسية وإجتهادتها الفقهية.
وقد حاربهم علي بن أبي طالب في معركه النهروان وانتهت المعركة لصالحه وكان عدد الخوارج ألفين بينما كان جيش علي بن أبي طالب قرابة سبعين ألف, لكنهم دبروا مكيدة لاغتياله وأخرى لعمرو بن العاص وكذلك معاويه بن ابى سفيان, نجا منها عمرو ومعاويه وقتل علي بن أبي طالب على يد أحد عناصرها المتعصبين, عبد الرحمن بن ملجم.

-1- الخـوارج

الخوارج كانوا في الأصل من شيعة علي ابن أبي طالب, وبعد حادثة التحكيم فارقوه وخرجوا عليه وانتهوا بقتله, فحسب رؤيتهم السياسية آنذاك أن علي بن أبي طالب (ض) لم يتب كما تابوا!!
وأضحى لهم في وقت قصير عقيدة دينية وأخرى سياسية خالفوا فيها الشيعة والمذاهب الأخرى. وتتصف هذه الفرقة بأنها أشد الفرق دفاعا عن مذهبها وتعصبا لآرائها. ويؤخذ عليها تمسكها بالألفاظ وظواهر النصوص. كما أنهم كانوا يدعون بالبراءة والرفض للخليفة عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والحكام من بني أمية وكان قيامها في الأصل لأطماع سياسية رغم بدائية أسلوبها باعتبارها قامت على أكتاف الأعراب الذين طمحوا إلى المشاركة في القرار السياسي ندا لند مع مجتمع النخبة التي كانت تمثله المدينة ومكة, فكان تكفيرهم لمن يخالفهم كرد فعل عدائي يكسبهم الشرعية الدينية التي حاولوا بها كسب التعاطف في مقابل التمتع باستقلالية دون مواجهة قرار جماعي باعتبارهم مرتدين أو خارجين عن طاعة ولي الأمر الذي تمثله شخصية أمير المؤمنين. وقد اعتمدت هذه الجماعة على الاغتيالات السياسية لأهم الشخصيات السياسية والاجتماعية, والتشدد والتكفير كنوع من الترهيب لخصومها لإرباكهم عند أي مناقشة تخرج عن فكرهم وتشكك فيه.
ففي عقيدتهم الدينية لا يعتبرون الإيمان بالقلب كافيا بل لا بد أن يقترن ذلك الإيمان بعمل صالح عملا بقوله تعالى (مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) وقوله (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ). فالله تعالى في عقيدتهم يقرن الإيمان بالعمل، فمن آمن بقلبه ولم يقرن إيمانه بعمل صالح فهو كافر في نظرهم. والعمل الصالح هو الذي يفرضه الدين، ولذلك نراهم يكفرون عليا ابن أبي طالب لأنهم طلبوا إليه أن يتوب توبة مقرونة بالعمل، والعمل المطلوب منه أن يرفض وثيقة التحكيم ويعود إلى قتال معاوية فأبى من منطلق شرعي وإخلاقي يمنعه من الرجوع في عهده وكذلك لإبعاد المجتمع الاسلامي من فتنة حرب أهلية, فاعتبروه رافضا العمل بأحكام الدين لأنه بقبوله وثيقة التحكيم يكون قد خلع نفسه من إمارة المؤمنين وسوى نفسه بمعاوية، وهو وال من ولاة الدولة، وأن الحكمين حكما برأيهما ولم يحكما بحكم الله، وحكم الله يقضي بتأييد حق علي في الخلافة لأنه هو الخليفة الذي بايعه المسلمون، فكان رفض طلبهم كبيرة من الكبائر أفتوا إنطلاقا منها قتال علي وقتله.
والخوارج خلافهم الأساسي مع أهل السنة فبالإضافة إلى قتال علي, أعتبر أهل السنة الخارج عن الحاكم في حكم الكافر, وبذلك كفروا عقيدتهم في الخروج على الحكام لأدني مخالفة شرعية وتحريض المسلمين على ذلك عبر تضليلهم بأحكام شرعية والأخذ بظاهرها.
أما عقيدتهم السياسية فهي تستند إلى مبدأ أصيل من مبادئ الإسلام وهو المساواة بين المسلمين فالمسلمون متساوون في الحقوق والواجبات لا تمييز بينهم ولا تفاضل إلا بالتقوى عملا بقوله تعالى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) وعلى أساس هذا المبدأ أقاموا قاعدتهم في أصول الحكم وهي أن الخلافة حق من حقوق المسلمين يتساوى فيه العربي وغير العربي كما يتساوى فيه الأحرار والأرقاء. وترجع فكرة المساواة إلى أصولهم القبلية، فالخوارج كانوا من أعراب تميم وحنيفة وربيعة, وكان لهم شأن كبير بين العرب. وقد أعجبوا بمبادئ الإسلام التي تلائم فطرتهم فاعتنقوه، وقد ساءهم أن تتولى الخلافة على شخصيات مكية وحصرها فيهم لأكثر من مرة من دون القبائل الاخرى, رغم أن الخلافاء الاربعة أختيروا لمكانتهم الدينية كصحابة عاصروا الرسول وتتلمذوا على سياسيته وفقه وأحكامه. فكانت أول ظاهرة لاستيائهم حركة الردة وامتناعهم عن دفع الزكاة (أحد أركان الاسلام الخمسة) لبيت المال مع بقائهم على الإسلام فحاربهم أبو بكر وأخضعهم وألزمهم بالزكاة، غير أنهم ظلوا متمسكين بعقيدتهم السياسية وهي أن الخلافة ليست لصحابة الرسول محمد (ص) أو قومه وإنما هي حق لجميع المسلمين على اختلاف ألوانهم وأجناسهم.
وقد شكلوا شراكات سياسية عديدة مع المناهضين للحكم الأموي والعباسي كما أنضم إليهم كثير من أعراب البادية ممن ظلوا على سذاجة تفكيرهم ولم يتجردوا من النزعات القبلية التي ظلت تسيطر عليهم، وهم بطبيعتهم يعيشون في بواديهم أحرارا لم يتعودوا الخضوع للسلطان ولم يألفوا الحكم المفروض عليهم، ولهذا نجد فريقا من الخوارج يرى أن الإمامة (الخلافة) ليست من الضرورات التي لا بد منها وإنها غير واجبة في الشرع ويمكن الاستغناء عنها لأنها مبنية على معاملات الناس وعلاقة بعضهم ببعض، فإذا تعادلوا وتناصفوا وتعاونوا على البر والتقوى واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه فإن تشابك مصالحهم وتقواهم يحتم عليهم أن يعدلوا ويتبعوا الحق وبذلك يستغنون عن الإمام. غير أنهم يرون الحاجة إلى الإمام إذا احتاج المسلمون إلى من يحمي ديار الإسلام ويجمع شمل الناس، وفي هذه الحالة يشترط في الإمام العدل، فالعدل عندهم حق أمر الله به في قوله (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) فإذا حاد الخليفة عن العدل فجار وظلم وفرض طاعته بالقهر والغلبة فيكون معاندا لأمر الله مخلا بأحكامه، والإخلال بأمر فرضه الله خروج عن الدين وكفر به وكبيرة تبيح خلع الخليفة أو قتله إذا أبى أن يخلع نفسه.
كما إنهم لا يعترفون بشرعية السلف إلا لأبي بكر وعمر وست سنوات من خلافة عثمان، لأنه من وجهة نظرهم حاد عن الطريق المستقيم الذي سلكه الخليفتين من قبله، أبو بكر وعمر.
فحسب رؤيتهم الخاصة التي كانت تعبر عن رغباتهم بطريقة غير مباشرة, آثر عثمان قرابته و ولاهم الأعمال وأغدق عليهم الأموال من بيت المال!! كما لا يعترفون بشرعية خلافة علي ابن أبي طالب إلا ابتداءا من مبايعته بالخلافة حتى قبوله التحكيم، وقد أباحوا قتل من لا يرى رأيهم، ومن يقول بشرعية خلافة عثمان بعد السنوات الست وشرعية خلافة علي بعد قبوله التحكيم، فهو عندهم يستحق القتل هو ونساؤه وأولاده, وهذا في حد ذاته تصرف نابع من عصبية قبلية خرجت من طبيعة تلك القبائل التي ترى في كل من يعارض مصالحها عدوا, وباعتبارها انطلقت من قاعدة دينية فقد تغير هناالمسمى وصارت تصنف أعدائها بالكفار مع أن عقيدة جماعة الخوارج كانت تلين مع كل خليفة كريم في منحه المالية وعطاياه.
وأعتبر الخوارج أنفسهم في كل عصر جنودا لنصرة العدل ومقاومة الظلم وحماية المستضعفين، وإنطلاقا من ذلك فجروا الثورات ضد الأمويين وضد عمالهم، حيث نجحوا في إختراق المجتمعات الغير عربية من الموالي والفرس والأمازيغ من أهل شمالي إفريقية, لعدم تمكن تلك المجتمعات من اللغة العربية وسهولة تسريب معتقدها المعتمد على ظاهر النصوص والمعاني المتشابهة في القرآن الكريم والسنة.
وكان الخوارج يشترطون في زعمائهم الشجاعة والتقوى ويبايعونهم على الموت ويلقبونهم بأمير المؤمنين. وكان قتالهم لمخالفيهم شهادة في سبيل الله وهم يعتبرون أنفسهم المسلمين حقا دون سواهم أما من عاداهم فكفار يبيحون قتل رجالهم ونسائهم وأطفالهم, وافترق الخوارج إلى فرق منها:
الأزارقة أصحاب أبي راشد نافع بن الأزرق
نجدات أصحاب نجدة بن عامر الحنفي
عجاردة أصحاب عبد الكريم بن عجرد
الصفرية أصحاب زياد بن الاصفر وعمران بن حطان

-2-الطوائف الاثنى عشرية

تأسست الطوائف الشيعية على السرية والكتمان, لكون معتقدها يحمل بداخله أفكارا سياسية ضد أنظمة الخلافة التي ظهرت بعد مقتل الحسين (ع), حيث حصروا الخلافة في سبطي الرسول محمد (ص), الحسن والحسين عليهما السلام وأحيانا كان تحصر لدى بعض الطوائف في سبطه الحسين, فالعقيدة الشيعية كانت مرفوضة من غالبية المجتمع الاسلامي السني, فرأوا في الافكار التي جاء بها الشيعة شركا وبالتالي خروجا عن شريعة الله وسنة محمد (ص), التي بنيت على الوحدانية لله كشرط للمعتقد الصحيح.
والمعروف أن التشيع نشأ في بلاد فارس, ويعتقد بعض المفكرين الإسلاميين والمؤرخين أن للكهنة المجوس بعد دخول الإسلام إلى بلاد فارس, دورا في نشأة هذا التيار, حيث تكونت في البدء على شكل جمعية سرية, وأسست له كنوع من المؤامرة لتهديم وحدة بناء الامبراطورية الاسلامية وكذلك كنوع من التوظيف السياسي.
ويذكر العديد من المؤرخين العرب أن معظم الثورات أل البيت أو مدعي النبوة قامت من بلاد فارس أو بأيدي أعوان فرس, وكانت دائما للأهداف سياسية بغرض الانفصال عن الإمبراطورية الإسلامية. ولأن محاربة الوثنية والتفرق كانا من موجبات الجهاد وفرد على كل مسلم بالغ رشيد, فنزعة البيعة للخليفة وطلب الانفصال كانت تحشد له الجيوش الجرارة لإبادة أي تمرد, إلا في حالة التمرد الشيعي الذي كان يرتكز دائما على الالتفاف حول شخصية من آل البيت, وهنا يتم نقد البيعة على قاعدة آل البيت أولى بالشفعة واختيار الأحسن على الحسن, فيكون التطوع للجهاد في صفوف المتمردين أكثر منه في صفوف السلطان لأن تلك التمردات دائما يسبقها نشر لدعوة سرية في كل أرجاء الامبراطورية.
فأبحاث الأنساب أشارت إلى أن هناك العديد من غير العرب اختلقوا بصائر اعتمدت على تنقلات آل البيت خلال الجهاد أو الفرار أثناء حملات الامويين والعباسين ضدهم بعد تمرد الحجاز و تمرد الادارسة في اليمن, لتضيع الشواهد على تلك الانساب وعلى صحتها عند التنقلات المعاكسة إلى بلاد المنشأ. وذلك لما يمثله النسب الشريف من أهمية داخل المجتمع الإسلامي إن كان من الشيعة أو السنة, وما يقدمه من امتيازات اجتماعية.

كل الثورات الشيعية قد نجحت في توظيفها السياسي, فقد ارتكزت على أتباع مؤمنين كقوة ضاغطة ومسيطرة على الموقف, إما بإنهاك خزينة الدولة لطول تلك الحروب, أو بنجاحها بفصل جزء من الامبراطورية عن المركز ولو حتى معنويا, وذلك لأن سكان تلك المناطق يحافظون على معتقدهم الجديد ويكونون متحفزين لإعادة التمرد حين تتوفر الظروف السياسية المناسبة والشخص المناسب لقيادة واحتضان فكرة التمرد.
ولعل أشهر تلك الطوائف كانت الطائفة الاسماعلية التي تفرع عنها طوائف عديدة حملت أسماء جديدة لكنها ظلت تحافظ على القالب الإيديولوجي للطائفة الأم مع بعض الإضافات, ونذكر منها طائفة الحشاشين, طائفة البهرة, طائفة الدروز, طائفة البهائيون.
والمعروف أن هذا النوع من الطوائف دائما ينشأ على أفكار وتعاليم طوائف سابقة, مرتكزة على المأثورات التي تركتها جماعات سابقة في الذاكرة الشعبية في المجتمعات التي تخترقها.


السياسة الاسلامية ما بين الخوارج والشيعة

لكي نفهم كيف نشأ هذا التوظيف للدين في الصراع الطويل للوصول للسلطة في المجتمع الإسلامي, لبد من الرجوع إلى تاريخ نشأة الدولة الإسلامية وتطورها من مبدأ البيعة بالشورى, والتي كانت تمثل آلية للانتخاب الحديث لرئيس الدولة في وقتنا الحاضر, إلى نشأة الأخذ بالبيعة للخلافة الملكية بالتوريث في حياة الخليفة المورث لأحد أبناءه الذي أعده لاستلام السلطة من بعده.
فالدولة الإسلامية هي في الأصل قامت مستندة على رسالة دينية سماوية, هدفها بناء مجتمع ناجح ومترابط من خلال تجميع قبائل وقوميات وديانات مختلفة تحت سلطة واحدة ونظام واحد مثله الإيمان بالله الواحد وتطبيق تعاليم دينه, مما سهل قيام مشروع الدولة السياسية, التي تدير أمورها بمقتضى الشريعة والقرآن باعتبار الدين الإسلامي دينا شاملا لقوانين المعاملات المدنية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية, تحت لواء حرية المعتقد الديني للفرد والالتزام بالقانون والشورى والتكافل الاجتماعي, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فقد كانت بداخل تلك الشرائع آلية لتنشئة صحية لمفهوم المواطنة وحقوق الإنسان والتشجيع على تلقي الحكمة والتعليم من خلال جعل العلماء في مصاف الأنبياء واعتبار جهودهم لتحصيل العلم أو البحث عنه بمثابة أعلى العبادات التي تعادل الجهاد وتحرير العبيد والحج, وأعتبر ما يترك للمجتمع من علم بمثابة صدقة جارية بعد الموت. كما اعتبرت المشاركة السياسية واجب ديني عبر الاختيار الصحيح لمن يمثلهم وطاعته التامة إذا أجتمع على اختياره أكبر عدد من المسلمين استنادا على حديث الرسول محمد (ص) (ما اجتمعت أمتي على باطل ) وإذا أنقسم الاختيار بين الناس يتم إحالة الموضوع للمنتدبين من الطرفين لحل الموضوع وتغليب مرشح عن الآخر عبر آلية التحكيم وبعد ذلك على الأمة الامتثال بالطاعة للخليفة الجديد الذي يخضع هو الآخر للقانون الإسلامي الذي يشرف على رعايته. فإذا ثبت بالأدلة وشهادة أهل العلم مجتمعين أنه خرج عن الشريعة تنزع منه البيعة والطاعة عن جمهور المسلمين.
وكان في حرية المعتقد مفهوم جديد يقوم على تقبل الأخر واستيعاب الثقافات المختلفة فكان نظام الجزية وسيلة لتمكين أصحاب الديانات الأخرى من المشاركة الغير مباشرة في نظام التكافل الاجتماعي وعرف المواطنة الذي مثله بيت المال, دون أن يفرد عليهم تقديم الزكاة والصدقات أو ضرائب عن الممتلكات باعتبارهم مواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات التي يتمتع بها المسلمون.
فبعد وفاة الرسول محمد (ص) تعاقب على الخلافة أربعة خلفاء لقبوا بالراشدين كانوا من الصحابة المقربين من الرسول (ص) وهم أبو بكر, وعمر بن الخطاب, وعثمان بن عفان, وعلي بن أبوطالب (إبن عم الرسول (ص) وزوج إبنته فاطمة الزهراء (ض)). وكانت فترة خلافتهم إثراء لسياسة الحكم الإسلامي عبر معاملاتهم ومواقفهم وقراراتهم في شتى الأمور.

حادثة كربلاء

60 - 64 هـ/ 679- 683م )في عام 41هـ\662م تولى معاوية بن أبى سفيان منصب الخلافة، بايعه الحسن بن على بن أبي طالب (ض) (حفيد الرسول محمد (ص)) حيث عاد إلى الكوفة ليستقبله أهلها باللوم والتعنيف على تنازله عن الخلافة وكان قد خلف أباه وصار معه ما يقرب من اثنين وأربعين ألفًا من الجند. واعتبر هذا العام الميلاد الرسمى لقيام الدولة الأموية.
وخلف معاوية إبنه يزيد الذي إستلم كرسي الخلافة بإمتناع عدد من المسلمين عن مبايعته، ثم ما لبثت معارضتهم لبيعته أن تحولت إلى ثورة مسلحة.وكان يزيد قد طلب من أمير المدينة المنورة الوليد بن عتبة بن أبى سفيان الحصول على البيعة من الحسين بن على، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، لكن الحسين وابن الزبير رفضا، وخرجا من المدينة إلى مكة، وأتخد عبد الله بن عمر بن الخطاب موقفا محايدا حيث قال: إن بايع الناس بايعت. فلما بايع الناس بايع ابن عمر يزيد بن معاوية.
وتعقَّد الموقف فى الحجاز حين علم أهل العراق برفض الحسين مبايعة يزيد وتوجهه إلى مكة، فوجدوا الفرصة سانحة للتخلص من الأمويين وإعادة الدولة كما كانت فى عهد على وليتولى أمرهم الحسين بن على الذي كان يتمتع بشعبية عالية في العراق, ورغبة أهل العراق في بقاءه كمركز للخلافة الاسلامية بدلا من الشام.فأرسلوا رسلهم إلى الحسين، ليحرضوه على المطالبة بالخلافة، ويطلبوا منه المسير إلى الكوفة، فبعث الحسينُ ابنَ عمِِّه "مسلم بن عقيل بن أبى طالب" إلى الكوفة ليتبين الموقف؛ وليمهد له الأمر، حتى إذا رأى إجماع الناس على بيعته أسرع بإحاطته علمًا بذلك. وعندما أقبل "مسلم بن عقيل" على الكوفة رأى من أهلها إقبالا ورغبة فى مبايعة الحسين، فبعث إليه على الفور يستعجل قدومه.لكن الأمويين كانوا قد أحيطوا علمًا بما يدور في الكوفة فأرسلوا على الفور عبيد الله بن زياد واليًا عليها ليحفظ الأمن والنظام، وليضبط الأمر على النهج الذي اتبعه والده زياد من قبل خلافة معاوية بن أبى سفيان.استطاع عبيد الله أن يُحكم سيطرته على البلاد، ويقتل قادة الدعوة إلى الحسين، ومن بينهم "مسلم بن عقيل" وينهي حماسة المنادين بالحسين خليفة بالتزامن مع تحرك ركب الحسين إلى الكوفة. فنصحه كبار الصحابة وكبار شيعته ليصرف النظر عن الذهاب إلى العراق، وعدم الاطمئنان لما نقل إليه عن مبايعة أهل العراق له, غير أن الحسين (ض) لم يأخذ النصائح المقدمة له بجدية. فخرج في جماعة من شيعته لا يزيدون عن ثمانين رجلا، ومعه نساؤه وأطفاله قاصدًا الكوفة دون أن يعلم بما حدث إلا وهو في طريقه إليها فلم يتراجع وواصل المسير, حيث كانت القوات الأموية في انتظاره عند "كربلاء"، وهناك نهايته بالقرب من الكوفة يوم عاشوراء في العاشر من محرم سنة 61هـ / 681م.

وقد ورث الخليفة عبد الملك بن مروان (65 - 86 هـ/ 684- 705م ) عبئ حادثة كربلاء, وعبئ نقد والده لعهد البيعة بالشورى من بعده لخالد بن يزيد بن معاوية وخلفه سعيد بن العاص من بعده حسب اتفاقية الجابية" .غير أن "مروان بن الحكم" نقض ذلك العهد وعهد بالخلافة لابنه "عبد الملك" ومن بعده ابنه " عبد العزيز" وراح يصرف الأنظار عن "خالد بن يزيد" الذي كان شابّا محدود الخبرات في الإدارة.. بما أوتى من وسائل. وباتت الدولة الإسلامية الموحدة تتقاسمها خلافتين: الأولى: عليها عبد الله بن الزبير وتضم الحجاز والعراق. أما الثانية: فيتولاها عبد الملك بن مروان التي لم تعد تضم إلا الشام ومصر. وقد نجح عبد الملك بن مروان في ضبط الأمور، والقضاء على الفتن، فانتشل الدولة من الفوضى التي وصلت إليها، وأعاد الأمن والاستقرار إلى ربوعها.
مرحلة التحرك السياسي الثوري لدى الشيعة والخوارج
كان مقتل الحسين بن علي (ض) بداية لعملية الابتزاز والتوظيف السياسي المنظم في المجتمع الإسلامي, فكان الشيعة يرتكزون عليها في حشد الأتباع لتمرد اتهم وكان الخوارج يستفيدون من قيام تلك التمردات في إعلان الانفصال وذلك لعدم قدرة الجيش على التركيز في حسم تلك التمردات بسرعة وقلة خطورته بانقسامه كقوة على جبهتين.

التشيع السياسي

بداية التشيع السياسي كانت في ظهور المختار بن عبيد الله الثقفي بالكوفة، والذي جمع من حوله شيعة علي (ض)، وراح يتتبع قتلة الحسين هنا وهناك وقتل منهم الكثير وعلى رأسهم أمير الجيش الذي حارب الحسين " عمر بن سعد بن أبى وقاص"، وقتل "عبيد الله بن زياد" أمير العراق الأموي، وشتت جيشًا قوامه (40) ألفًا، كما قتل "الحصين ابن نمير" واستولى على الموصل، وراح يدعو لمحمد بن الحنفية ابن الإمام على كرم الله وجهه، ويناديه بالإمام المهدي يعني بذلك المهدي المنتظر. وهذه كانت بداية انتشار الفكر الشيعي في شرق الدولة والتوظيف السياسي لنبوءة المهدي المنتظر وعودة المسيح (ع) وعلامات يوم القيامة, وعاملا أساسيا مهد لزوال الدولة الأموية فيما بعد. فقد عمد الشيعة في ذلك الوقت وعلى رأسهم المختار إلى مصاهرة محمد بن الحنفية، ليستفيدوا من هذه النسب في اكتساب مزيد من المؤيدين الناقمين على بنى أمية والثائرين من أجل المطالبة بدم الحسين وآله.والمعروف أن محمد بن الحنفية كان عالمًا زاهدًا، قد رفض أن يبايع لأحد من الخليفتين (ابن الزبير أو ابن مروان)، وقال (حتى يبايع الناس أجمعون فإن بايعوا بايعت), فلم يكن لمحمد بن الحنيفة أي نشاط سياسي أو مطمع في الخلافة.وبمقتل ابن الزبير دخلت الحجاز من جديد تحت حكم بني أمية، وكوفئ الحجاج قائد الحملة بأن ظل واليًا على الحجاز من قبل عبد الملك ابن مروان حتى سنة 75هـ/ 695م.وقد لاحظ عبد الملك بن مروان خطورة الجماعات الشيعة التي كانت تعتمد على النشاطات السرية فى مدن العراق مثل الكوفة, بسبب قربها من بلاد فارس التي تشيع من أهلها الكثير في السر, وركز الشيعة الفرس نشاطهم في سبيل وصول أبناء الحسين بن على بن أبى طالب إلى منصب الخلافة، وأدعى بعضهم أنهم من سلالة الحسين؛ وذلك لأنه تزوج من شهر بانوه بنت يزدجرد الثالث آخر أكاسرة الفرس، وزعموا أن تلك السلالة من أبناء الحسين تجمع بين دم عربي، وأشرف دم فارسي.فأوكل عبد الملك بن مروان مهمة كسر شوكة الجماعة الشيعية لشخصية عرفت في التاريخ الإسلامي بقسوتها ودمويتها وهو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي روض أهل العراق طوال فترة ولايته, واستطاع القضاء على مظاهر الفتن.
خلافة أبى جعفر المنصور وثورات الشيعة والخوارج وأل البيت (136 - 158هـ/ 754 - 775م)
لا أحد ينكر أن الدولة العباسية قامت على أكتاف الشيعة قبل العرب, وقليلون يعرفون أن تحركاتها السرية كانت ترتكز على فكر شيعي, كفكرة النقباء الاثنى عشر التي ميزت تنظيم كوادرها السري واللون الاسود الذي ميز ثورتهم في اللباس وشعار ثورة الدولة الجديدة وتمثل في لواء فرق الموت التي جندتها لتتبع أعداء الثورة وتصفيتهم أو ما سمي وقتها بالريات السود. إلا أنها مع قيام الدولة واجهت مرارا مشاكل مع كوادرها الشيعية التي أعلنت التمرد ووجدت في نفسها ندا للحكم في مناطق فارسية حيث تلعب القومية دورا في دعم ذلك التمرد.

ويبقى أبو مسلم الخراساني أول من دشنوا لذلك التوجه, وأبو مسلم كان أحد كوادر الانقلاب على الدولة الأموية. وأعتمد عليه العباسيون في بسط نفوذهم في فارس, لكنه في فترة خلافة أبي جعفر المنصور تعاظمت شوكته. فبسبب مكانته القوية في نفوس أتباعه، كان لا يتردد بالاستخفاف بالخليفة المنصور ويرفض باستمرار الخضوع له, فكان يومًا بعد يوم، يقوى ساعده وكلمته تعلو، على الخليفة المنصور الذي أحس بوادر الخيانة من أبو مسلم فقرر التخلص منه.فأرسل إلى أبى مسلم حتى يخبره أن الخليفة ولاه على مصر والشام، وعليه أن يوجه إلى مصر من يختاره نيابة عنه، ويكون هو بالشام ليكون قريبًا من الخليفة وأمام عينيه وبعيدًا عن خراسان حيث شيعته وموطن رأسه، إلا أن أبا مسلم أظهر سوء نيته، وخرج على طاعته ونقض البيعة، ولم يستجيب لأية وساطة، فأغراه المنصور حتى قدم إليه في العراق، وقتله في سنة 137هـ/ 756م.وهنا لعبت القومية دورا في فتنة جديدة في خرسان, فكان ممن غضب لمقتل أبى مسلم الخراسانى، رجل مجوسى اسمه "سُنباد"، فثار والتف حوله الكثيرون من أهل "خراسان"، فهجموا على قرى المسلمين فى "نيسابور" و"قومس" و"الرى"، ونهبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا النساء، ثم تبجحوا، فقالوا: إنهم عامدون لهدم الكعبة، فأرسل إليهم المنصور جيشًا بقيادة جمهور ابن مرار العجلى، فقضى عليهم واستردَّ الأموال والسبايا سنة 137هـ/ 756م.

أما الخوارج فاستطاعو كجماعة متطرفة فكريا دائما استغلال أزمات الفوضى, وفترات يكون فيها جيش الدولة منهكا من القتال في أكثر من جبهة للخروج ثانية وإعلان التمرد باستيلائهم على مناطق نشروا فيها أفكارهم مسبقا, ورغم محاولات القضاء عليه من الأمويين والتي تزامن تمردها مع ثورة المختار الثقفي, عادت بفكرها للظهور من جديد, فقد تحرك الخوارج مرة ثانية في خلافة المنصور سنة 148هـ بالموصل تحت قيادة "حسان بن مجاهد الهمدانى"، إلا أن خروجه هو الآخر قد باء بالفشل. وتجدر الإشارة إلى أن هذا التحرك جاء بعد مواجهة المنصور لثورات لطوائف ذات فكر غنوصي. وفى سنة 141هـ/ 759م..

واجه المنصور ثورة أخرى لطائفة من الخوارج المهرطقين يقال لها "الراوندية" ينتسبون إلى قرية "راوند" القريبة من أصفهان.وهذه الطائفة الذين تجمعوا بالكوفة, ممن يؤمنون بتناسخ الأرواح، ويزعمون أن روح آدم انتقلت إلى واحد يسمى "عثمان بن نهيك" وأن جبريل هو واحد منهم يدعى الهيثم بن معاوية ، وكان من بين هرطقتهم زعمهم أن ربهم الذى يطعمهم ويسقيهم هو "أبو جعفر المنصور"، فراحوا يطوفون بقصره قائلين: هذا قصر ربنا. فقاتلهم المنصور حتى قضى عليهم جميعًا بالكوفة.
وكانت هذه أول علامات عن ظهور الفكر الاثنى عشري !!

ثورة أل البيت (محمد "النفس الزكية"):
من أخطر الثورات التى واجهت المنصور خروج محمد بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن على، وكان من أشراف بني هاشم علمًا ومكانة، وكان يلقب بـ "النفس الزكية" فاجتمع العلويون والعباسيون معًا وبايعوه أواخر الدولة الأموية، وكان من المبايعين "المنصور" نفسه، فلما تولى الخلافة لم يكن له هم إلا محمد بن عبد الله خشية مطالبته بطاعة هؤلاء الذين بايعوه من قبل، وهنا خرج "محمد" النفس الزكية بالمدينة سنة 145هـ/763م، وبويع له في كثير من الأمصار. وخرج أخوه "إبراهيم" بالبصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على "فارس" و"واسط" و"الكوفة"، وشارك في هذه الثورة كثير من الأتباع من كل الطوائف.وبعث المنصور إلى "محمد النفس الزكية" يعرض عليه الأمن والأمان له ولأولاده وإخوته مع توفير ما يلزم له من المال، ويرد "محمد" بأن على المنصور نفسه أن يدخل في طاعته هو ليمنحه الأمان.وكانت المواجهة العسكرية هي الحل بعد فشل المكاتبات، واستطاعت جيوش أبى جعفر أن تقضي على ثورة محمد "النفس الزكية" وقتله بالمدينة، وكذلك القضاء على أتباعه في العراق.

الخلفية موسى الهادى والعلويين( 169 - 170هـ / 786 - 787م)
لم تكن الأمور بين الخليفة موسى الهادي والعلويين بالجيدة كما كانت في عهد أبيه المهدي، وعادت إلى التوتر بعد فترة السلام التي امتدت طوال فترة خلافة المهدي. وكان السبب في ذلك سلوك عامله على المدينة الذي ظلم بعض آل البيت (حسب الروايات التاريخية), مما جعل الحسين بن على بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب يثور ويجتمع حوله كثيرون ويقصدون دار الإمارة، ويخرجون من في السجون، وعندما خرج الحسين إلى مكة أرسل الهادي أحد قادته إلى مكة ليرجع إليه برأس الحسين بعد معركة الفخ التي نجا منها اثنان من البيت العلوي أحدهما: يحيى بن عبد الله بن الحسن، وأخوه إدريس بن عبد الله.وقد ثار الأول في عهد الرشيد فقتل أما الثاني وهو إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن فقد تمكن من إقامة دولة الأدارسة في المغرب الأقصى, وفصلها على نفوذ الخلافة المشرقية للأبد.
مرحلة التدهور الفكري والسياسي في المجتمع العباسي
أثر التدهور الفكري والثقافي للمجتمع العباسي نتيجة ضعف السلطة المركزية كسلطة رقابية على عمال أقاليمها وكبار موظفيها الذين أسسوا لهيكل إداري فاسد ساهم بشكل ما في إبعاد المجتمع الثقافي لبغداد عن باقي الولايات والذي كان يمثله القضاة والعلماء, كقوة ناقدة لأي تلاعب أو انحراف ومعارضة للفساد.
وباعتبار العلماء كانوا يمثلون هيئة تنويرية وتحريضية للعامة, كان لبد من خلق طبقة من علماء وفقهاء تابعين للسلطة لتتماشى مع مصالح النخبة الفاسدة في البلاد, ولم يعد هناك متابعة سياسية واجتماعية جادة في ولايات الإمبراطورية التي أهتم ولاتها في زيادة ثرواتهم وخدمة مصالحهم الشخصية, وانتشر الجهل وقل المهتمون بالتحصيل العلمي, مما هيأ الجو المناسب لخروج جماعات ذات فكر يحمل الكثير من الهرطقة و عبدة الشيطان ومن بين تلك الجماعات كانت جماعة القرامطة.
خلافة المعتمد على الله والجماعات المهرطقة (256-279هـ/870-892م)
شهدت آخر سنتين في خلافة المعتمد على الله, ثورة "القرامطة" بالكوفة وقد تحركوا سنة 278هـ/ 891م، وهم ينسبون إلى قرمط بن الأشعث الذي أستطاع جمع الكثير من الأتباع، واعتبر المؤرخون فرقة القرامطة من الزنادقة لانحراف تفكيرهم و ما جاؤا به من تحريف لتعاليم الدين الإسلامي في ممارساتهم العلنية. لكن بالرجوع إلى تاريخهم وتعاليمهم تجد أنهم جماعة شبيهة بعبدة الشيطان الحالية.وقد سعى القرامطة إلى تكوين تحالفات مع قوى مشابهة، فقد سعى قرمط إلى صاحب ثورة الزنوج قبل هلاكه ليتفق معه على ثورات تخريبية، وكان من بين تلك العمليات تحركهم إلى الأراضي المقدسة في الحجاز حيث اقتحموا المسجد الحرام وسفكوا دم الحجيج، واقتلعوا الحجر الأسود ورجعوا به إلى بلادهم سنة 317هـ/ 929م.

خلافة المكتفى بالله والقرامطة(289-295هـ/ 902-908م)
لم يخلوا عهده كسابقيه من الثورات، التي أثرت على مشاريع الاصلاح والعمران في الامبراطورية العباسية بالاضافة إلى هجمات الروم المتواصلة التي أثرت على الموارد المالية. فقد حاصر "القرامطة" دمشق، وضيقوا عليها حتى أشرف أهلها على الهلاك، وكان ذلك فى سنة 290هـ، وتواصل عدوانهم على البلاد المجاورة حيث خرجت جيوش من مصر للدفاع عن دمشق، وتحركت نجدة من بغداد، بعد أن ألحق القرامطة خسائر كبيرة عبر أعمالهم التخريبية وقتلوا من جديد الحجاج، واغتصبوا النساء، وقويت شوكتهم، ولم تستطع النجدات سحقهم وقطع دابرهم إلى أن وجهت حملة ضدهم بجيش الخليفة في سنة 291هـ حيث استطاع أن يقضى على معظمهم وليس كليا!! فقد كان العدد القليل ممن فروا بعد المعركة بفكرهم قادرين على إعادة الصفوف وتجنيد الاتباع خلال سبعة سنوات ليظهروا من جديد في عهد الخليفة المقتدر.
خلافة المقتدر (295-320هـ/9 08-932م)
يذكر المؤرخون أن عهد الخليفة المقتدر, كان عهد فتن وقلاقل، فقد ذكر ابن الأثير أن هذا الخليفة اشتهر بعزل وزرائه، والقبض عليهم، والرجوع إلى قول النساء والخدم، والتصرف على مقتضى آرائهن. فكانت الدولة تسير من الخليفة وأمه التي أطلق عليها المؤرخون اسم "السيدة". وهذا التدخل الذي تعدت أخباره أسوار قصر الخلافة جعل قراراته تنقصها المصداقية لدى الرعية وتصاحبها قلة الاحترام لها باعتبارها قد تكون من قرارات نساء القصر وربما لا تكون من الخليفة نفسه. فاضطربت أحوال الدولة العباسية في عهد "المقتدر" , وخرج عليه "مؤنس الخادم" أحد القواد في سنة 317هـ/ 929م، وأرغم هذا الخليفة على الهرب، وبايع هو وغيره من الأمراء "محمد بن المعتضد" ولقبوه: "القاهر بالله" ، لكن طلب الجند رواتبهم في الوقت الذي قامت فيه الاحتفالات بتقليد الخليفة الجديد للخلافة، كان سببا للانقلاب على انقلاب مؤنس الخادم حيث حملوا المقتدر على أعناقهم، وردوه إلى دار الخلافة، وعزلوا القاهر!! وهنا يمكن تخيل شكل الدولة بجيش من الجند صار المال ما يخلق ولائه, حيث لم يعد يختلف عن تفكير المرتزقة في شيء!!
هذا الانحدار الأخلاقي بالإضافة إلى الأوضاع الداخلية الغير مستقرة, شكلا فرصة جديدة للقرامطة للتحرك في خلافة المقتدر فنزلوا البصرة سنة 299هـ/ 912م والناس في الصلاة، فخرج أهلها للقائهم وأغلقت أبواب البصرة في وجوههم.ولكنهم عادوا سنة 311هـ/ 924م، واقتحموا أسوارها، وعاثوا فيها فسادًا لأكثر من أسبوعين, مخلفين وراءهم الكثير من القتلى، حيث رجعوا إلى "هجر" بالبحرين بمن أسروا من سكان البصرة وبما استولوا عليه من أموال.وفى سنة 313هـ/ 926م، قام القرامطة باعتراض الحجيج بعد أن أدوا الفريضة فقطعوا عليهم الطريق، وأسروا نساءهم وأبناءهم.وثار الناس في بغداد، مطالبين بالقصاص من القرامطة.وظلت سلسلة اعتداءات القرامطة على المدن والحجاج تتكرر في كل عام، دون أن يتحرك الخليفة لردعهم، فلم تسلم منهم مدينة حتى مكة التي اعتدوا عليها وعلى مقدساتها في سنة 317هـ/ 929م، وجلس أميرهم على باب الكعبة وهو يقول: "أنا الله وبالله أنا الذي يخلق الخلق وأفنيهم أنا". وكان الناس يفرون منهم، ويتعلقون بأستار الكعبة، وقلعوا الحجر الأسود، وصاح أحدهم متحديًا: أين الطير الأبابيل؟ أين الحجارة من سجيل؟ ومكث الحجر الأسود عندهم اثنتين وعشرين سنة حتى ردوه في سنة 339هـ/ 951م.
وظهر القرامطة أيضًا على مسرح الأحداث في سنة 323هـ، وزاد خطرهم في سنة 323هـ/ 939م، حين دخلوا بغداد مهددين الخليفة نفسه، لكن صراعا داخليا في جماعة القرامطة أدى إلى اقتتالهم في ما بينهم حيث قتل فيه زعيم الجماعة "سليمان الجنابى" سنة 332هـ/ 944م!!

مرحلة ضعف السلطة الشرعية

معز الدولة والشيعة البوهين(334 - 447هـ/ 946 – 1056م)

في تلك الفترة صار الخليفة العباسي مجرد اسم فقط، ولا يملك من أمر نفسه شيئًا، فقد استطاع البويهيون أن يتحكموا فى الخليفة، ويسيطرون على الدولة واستحوذوا على كل صلاحيات إدارة الدولة، ففى أيام "معز الدولة" جردوا الخليفة من اختصاصاته، فلم يبقَ له وزير وأبقوا على كاتب يدير أملاكه الخاصة!! وصارت الوزارة لمعز الدولة (أبو حسن أحمد الديلمي) يستوزر لنفسه من يريد!!
وكانت فترة حكم البوهيين من أهم أسباب تدهور الخلافة العباسية وغروب شمسها، والبويهيين (الديلم) هم من الشيعة المتعصبين, والذين رأوا في الخلافة العباسية, سلطة غير شرعية ومغتصبين لها من مستحقيها من آل البيت، وكانت هذه أهم حججهم ليتمردوا على الخليفة، والخلافة بصفة عامة، ويخلعوا عنها الطاعة. ويرجع أصل البوهيين إلى ملوك ساسان الفارسيين الذين شُرِّدوا، حيث أتخدوا من إقليم الديلم الواقع فى المنطقة الجبلية جنوبى بحر قزوين ملجأ لهم ومقرّا فيما بعد.تطلع بنو بويه إلى السيطرة على العراق مقر الخلافة, وتزعَّم أبو شجاع بويه قبائلَ البويهيين-فى خلافة الراضى العباسى سنة (322 - 329هـ)، والذي ينتهي نسبه إلى الملك الفارسي "يزد جرد" وقد أنجب ثلاثة من الذكور، هم : عماد الدولة أبوالحسن علي، وركن الدولة أبو على الحسن، ومعز الدولة أبو الحسين أحمد.وكانت بداية الدولة البويهية باستيلاء عماد الدولة أبى الحسن علىِّ بن بويه على أرجان وغيرها، وقد دخل عماد الدولة شيراز سنة 322هـ ، وجعلها عاصمة لدولته الجديدة، كما دخل فارس، وأرسل إلى الخليفة الراضى أنه على الطاعة.واستولى معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه سنة 326هـ على الأهواز، (وهى الآن خوزستان) وكاتبه بعض قواد الدولة العباسية، وزينوا له التوجه نحو بغداد، وفى سنة 334هـ/ 946م، اتجه أحمد بن بويه نحو بغداد بقوة حربية، فلم تستطع حاميتها التركية مقاومته، وفرت إلى الموصل، ودخل بغداد فافتتحها في سهولة ويسر.ولقب الخليفة المستكفى أبا الحسن أحمد بن بويه بمعز الدولة، ولقّب أخاه عليّا عماد الدولة، ولَقب أخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تكتب ألقابهم على الدراهم والدنانير، ولكن أحمد بن بويه لم يكتف بهذا اللقب الذي لا يزيد على كونه "أمير الأمراء". وأصر على ذكر اسمه مع اسم الخليفة في خطبة الجمعة، وأن يُسَكّ اسمه على العملة مع الخليفة، ولقد بلغ "معز الدولة" مكانة عالية ؛ فكان الحاكم الفعلي في بغداد مع إبقائه على الخليفة، غير أنه ما لبث أن قبض عليه، وفقأ عينيه سنة 334هـ/ 946م.

الصراع الطائفي

كان من الطبيعي أن يلجأ البويهيون كشيعة متعصبين إلى إظهار مذهبهم ونشره بما ترتب على ذلك من معاداة لأهل السنة، وتجاوز للحدود والحقوق.ولقد أثار ذلك أهل السنة، ونشأ عن ذلك حدوث الكثير من الفتن، وكثيرًا ما كان الشيعة يثيرون أهل السنة بلعنهم الصحابة (رضوان الله عليهم)، ولم يكن هذا التطاول مقصورً ا على بغداد وحدها، بل تجاوزها إلى كل بلد حَلَّ بها البويهيون، وفى كل بلد تخضع للشيعة، وقد وقعت فتنة بين أهل "أصبهان" و "قم" بسبب سَبِّ أهل "قم" الصحابة مما جعل أهل أصبهان يثورون عليهم، ويقتلون منهم خلقًا كثيرًا وينهبون أموال التجار, وهذا أثِار غضب ركن الدولة "الحسن البويهي"، فعمد إلى مصادر أموال أهل أصبهان، منتقما لأهل "قم" منهم، وراحت نيران هذه الفتنة تشتعل في كل مكان، في الكرخ، وفى بغداد، وفى البصرة، فقُتل إثر ذلك الكثير.وكان عدم اهتمام البوهيين بالنزاعات الطائفية وتطرفهم لمذهبهم متناسين التركيز على إعلان قوتهم خارجيا في الصراع المستمر مع جيش الروم، سببا في ترك الفرصة للروم في شَنَّ غارات كثيرة على الثغور والشواطئ أدت إلى تخريب المدن والمساجد وقتل الكثيرين من الرجال والنساء والأطفال.وتحرك الفقهاء سنة 362هـ/ 973م، محرِضين عز الدولة لتحريك بن أحمد بن بويه لغزو الروم، وتحرك الجيش إلى بلاد الروم، حيث ألحقت بهم هزيمة مخزية وبعث برؤوس معظمهم إلى بغداد.

إنتشار الجريمة والفوضى الامنية

في ذات الوقت انتشرت ظاهرة السرقة والسلب والنهب بصورة علنية، بينما انتشرت الأوبئة، واشتد الغلاء، في الوقت الذي كان اهتمام البويهيون الأول هو نشر مذهبهم, عبر الاحتفال مثلا بعيد الغدير (غدير خم) الذي يزعمون أن الرسول ( عهد عنده بالخلافة إلى على بن أبى طالب), وكذلك دفعوا العوام للطم الخدود والنواح والعويل في العاشر من المحرم حزنًا على استشهاد الحسين بن علىّ، ولم تلبث الدولة البويهية أن أخذت في الانهيار بسبب النزاع على السلطة بين الأخوين "بهاء الدولة"، و"شرف الدولة"، وامتد هذا النزاع إلى سائر أفراد الأسرة، مما عجّل بالقضاء على البويهيين، وساعد على ذلك, اعتناق أهل بغداد للمذهب السني.

0 التعليقات:

إرسال تعليق