لله ثم للتاريخ: شهادتي في مجزرة رهبان تبحيرين بالجزائر
عادت إلى الواجهة مجددا قضية مجزرة تبحيرين التي راح ضحيتها الرهبان السبع الفرنسيين وفي يوم من أيام 1996 المشؤومة، جاء ذلك على إثر شهادة للجنرال المتقاعد فرنسوا بوشوالتر لدى قاضي التحقيق الفرنسي المتخصص في قضايا الإرهاب مارك ترفيديك بتاريخ 25 يونيو/جزيران 2009، وقد إتهم هذا الجنرال المتقاعد الجيش الجزائري بالتورط في ذبح الرهبان عن طريق "الخطأ" وبواسطة إطلاق النار من طرف طائرات هيلكوبتر، والتي قنبلت المنطقة التي كان يتواجد بها المختطفون مع عناصر الجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا".
كلام لا بد منه
------------
الصحافة الجزائرية التي صدرت بعد الترويج والضجة الإعلامية التي خلفتها تصريحات الجنرال المتقاعد التي سربت، جعلتها تدخل في خانة ذلك السؤال الذي أرق السلطات الجزائرية كثيرا وهو:
من يقتل من؟ وسبب الصداع وخاصة في ظل تلك الشهادات المثيرة والغامضة وحتى المشبوهة، التي قدمت عبر وسائل الإعلام أو في مؤلفات، ومن طرف ضباط سابقين في الجيش الجزائري، كالوا أشنع التهم للمؤسسة العسكرية التي ظلت صامتة وإن ردت فعن طريق ما يزيد الشبهات ترسيخا، وطبعا هذا الأمر يحتاج إلى وقفات كثيرة، ودراسة واسعة حول خلفيات كل شاهد أو ضابط سابق، وفي الوقت نفسه لا يمكن أيضا أن نجعل كل ما ورد على ألسنتهم يدخل في إطار الكذب والمؤامرة التي تحاول المؤسسات الرسمية الجزائرية عبر وسائلها الإعلامية الترويج لها.
لا أريد العودة إلى النبش في أغوار الماضي والتاريخ، والذي بلا شك يحتاج إلى مؤلفات ومجلدات وليس إلى مقال عابر، ولكن أريد الوقوف عند أمور من خلال تجربتي الشخصية حتى تتضح الرؤية والموقف الذي فرضته المرحلة، من ما يروج له في الصحافة الفرنسية ذات الوزن الثقيل حول مسؤولية الجيش الجزائري في مقتل الرهبان، وخاصة لما دخل الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على خط القضية وأحياها مجددا بالدعوة إلى التحقيق الأعمق وغير المحدود، برغم مرور 13 عاما على حدوثها، وفي ظل ما يطبع العلاقات بين البلدين من برودة وتجاذب.
وطبعا تاريخ الجريمة لا يبرر طيها أبدا أو تقادمها حسب قوانين الإجراءات الجزائية كما قد يخيل لأن الفصل فيها لم يتم قضائيا، ولا نرى النسيان وطي القضايا بطرق مشبوهة إلا في الجزائر وباقي البلاد العربية، لأن الدول التي تحترم رعاياها ومواطنيها لا تتساهل في دمهم ولو مر ألف عام على رحيلهم، فكلما تظهر حيثيات جديدة لابد أن يتحرك القضاء بإستقلالية ونزاهة وبمحض إرادته ومن دون أوامر من أي طرف مهما كانت سلطته، ولكن كم من أمور ظهرت حول المجازر ولكن القضاء لم يتحرك لإثبات مربط الحقيقة، وليس القفز عليها بشعارات طنّانة ورنانة، وهذا الذي سيبقى يدين النظام إلى الأبد.
وهنا يجب أن نؤكد على أمر هام، وهو أن ما حدث في الجزائر من جرائم ومجازر يندى لها الجبين، لا يمكن أبدا أن أبرئ منها تلك الجماعات المتطرفة أبدا، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن أبرئ المؤسسة العسكرية لأنها تتحمل وزر الدم الذي أهرق من دون مراعاة للقيم الإنسانية ولا حق الناس في الحياة والبقاء، سواء بطريقة مباشرة أو عن طريق تورط عناصرها فيها أو بواسطة عدم قيامها بالدور الذي تضطلع به قانونا لحماية أرواح وأعراض وأموال الناس.
أنه توجد تجاوزات كثيرة وقعت سواء كانت عن عمد أو عن طريق الخطأ، ولكن يتحمل وزرها أولئك الذين إقترفوها وليس المؤسسة العسكرية ككيان قائم بذاته، وأقولها بكل صراحة أن الذي يزعم من أن المؤسسة العسكرية كانت تصدر أوامرا لكتائبها وفصائلها بإرتكاب المجازر في حق المدنيين فهو واهم ومخطئ، بل وأنا عايشت تلك المرحلة من بدايتها عام 1991 ولم يصلنا أمر يوما بضرورة التخلص من المدني أو القرية الفلانية، وهذا لا يعني أن التجاوزات والظلم لم يقع، بل يوجد قادة على مستوى الميدان من تحملوا مسؤوليات في إرتكاب الكثير من الأخطاء المهنية أو حتى الإجرامية في حق الإنسانية، التي دفعتهم لها حسابات شخصية أو أطماع مادية أو رغبات إنتقامية...
وطبعا لم يصل أمرهم للقيادات وإلا كان مصيرهم السجن العسكري، ومن بلغت أفعال أحدهم ولم يتعرض للحساب فله أكيد أكتاف تحميه وهذا غالبا ما حدث. وطبعا عدم التحقيق الجدي والفعال في المجازر والحرب التي حدثت والتي راح ضحيتها أكثر من 250 ألف مواطن حسب إحصاءات رسمية، وفي الحقيقة أنها قاربت نصف مليون لو أنصفنا العد والحساب، وهو الذي فتح المجال لكثير من الشبهات والتأويلات والحسابات السياسوية المافياوية التي صارت تتحكم في العرف الدبلوماسي القائم الآن، وفق مصالح ذاتية وأطماع لا يمكن أن تنتهي مادام الإنسان يعيش على وجه البسيطة.
ورفض السلطات الجزائرية للتحقيق هو حماية لبعض الواجهات الأمنية من جنرالات المؤسسة العسكرية الذين تورطوا في تلك الحرب الأهلية، التي لا يمكن أن تزال وتمحى تداعياتها بميثاق أو عفو عن سجين أو تعويض مادي محكوم بهوى نفوس مريضة، أو بعفو شامل يقرره رئيس الجمهورية، وستكون تداعياتها وخيمة على الأجيال القادمة سواء من طرف أبناء الضحايا ومن الطرفين، أو ممن لا يزالون ينفخون في جمر الفتنة ولأسباب مختلفة، ولهذا فعدم التحقيق الجدي ومن قبل جهات مستقلة ونزيهة، سيجعل البلاد رهينة لدى قوى كبرى تستل سيف المجازر والدم الذي سال في أي لحظة وحسب الحاجة والمصلحة الآنية، وسيبقى النظام خاضعا ومذلولا ولا يستطيع أن يرفع رأسه أبدا، مادام دم الأبرياء سهل أن يعلق في عنق رجال حكمه، وفي متناول عريف فار من الخدمة أن يقلب العالم بشهادة تأتي على لسانه ولو كانت كاذبة.
وبلا أدنى شك أن جنرالات المؤسسة العسكرية الذين نفذوا إنقلاب 1992 على الشرعية، هم الشرارة التي ألهبت البلاد وأحرقت الناس ممن لا ناقة لهم ولا جمل، ومحاسبتهم على جرمهم ضرورة ملحة يفرضها الحرص على مستقبل البلاد والأمة، خاصة أنه يوجد من بينهم من استعمل الطرق القذرة في حربه ضد الإسلاميين. وفي الوقت نفسه لا يمكن إعفاء أولئك الذين هبوا وحملوا السلاح وقاتلوا بدافع التكفير والثورة ذات البعد العقدي على كل المجتمع، والفضل طبعا يعود إلى وجود تلك العقائد السلفية الجهادية في نفوس مناضلي الجبهة الإسلامية للإنقاذ والتي غذّاها بعض شيوخ وقادة الجبهة عن طريق التهديد بإعلان الجهاد إن لم تقم دولة إسلامية، أو بواسطة الفتاوى المروج لها عبر مختلف الوسائل، والتي كانت تعتبر الجيش والدرك ورجال الأمن كلهم بلا إستثناء كفارا يخدمون الطغاة، وإن لم يتوبوا ويعلنوا براءتهم سيحاسبون على ردتهم بالقتل والذبح والإبادة، ومع مرور الأيام وتحت تأثير غبار المعارك تجاوزت الفتوى حدودها ولاحقت أعناق البسطاء والفقراء من عموم الشعب.
وبصفتي الضابط الذي عايش المؤسسة العسكرية من الداخل خلال الحرب الأهلية، وأيضا عايش الإسلاميين في السجون، أؤكد على أنه لا يمكن تبرئة أي طرف لحساب ذاك، فالجنرالات وحفاظا على مكاسبهم انقلبوا على الديمقراطية التي كانت بلا شك ستخلق طالبان أخرى في الجزائر، لأن الجبهة الإسلامية للإنقاذ حينها كانت مصممة على إعلان دولة دينية وخلافة إسلامية تفرض على الجميع مبايعتها، وبلا شك أن تداعيات هذا الأمر خطيرة وجسيمة على المنطقة المغاربية والعربية والعالم كله. وبسبب تلك المبررات التي بولغ فيها بلا شك تمّ إستعمال وسائل محرمة دوليا وشرعيا لأجل تحقيق النصر والبقاء في الحكم، ومما يذكر هنا أنه جرى إختراق الجماعات المسلحة، وأيضا صنعت الجماعات الموازية... الخ.
وأيضا أن الجماعات المتطرفة تشكلت من قميص الجبهة الإسلامية للإنقاذ ولا يمكن أن ينكر أحد ذلك، فقد سمعت مرارا وتكرارا من جهات تريد تبرئة جبهة الإنقاذ من الحرب الأهلية بحجة أنه لم تصدر فتوى ولا أمرت بحمل السلاح، هذا حقيقة لأنه لم نر مستندا يثبت ذلك، ولكن لا أحد يمكنه أن ينكر الواقع المعاش لأن أغلب مناضلي الجبهة وأغلب أنصارها ورؤساء مكاتبها وأعضاء برلمانها إن لم يهربوا للخارج ويناصروا الجماعات المسلحة، فهم أمراء في الجبال... فالكل مسؤول في نظري، ولكن المسؤولية الملقاة على عاتق الجيش أكثر، ولنا عودة للموضوع مستقبلا.
شهادتي له ثم للتاريخ
---------------------
أعود إلى قضية مذبحة تبحيرين في أعالي ولاية المدية التي حدثت عام 1996 ولا تزال تثير الجدل، والتي عادت للواجهة بطريقة مثيرة للغاية وتحيط الشكوك بها من كل جانب، فإن شهادتي تنطلق من محورين هامين: المحور الأول: لقد كنت خلال عام 1996 لما وقعت المذبحة أعمل في وحدة تابعة للمجموعة 14 للوسائل المضادة للطيران، وقد كان فيها مركز عملياتي ببوزريعة يرتبط مباشرة بالمركز الأم للقطاع العسكري في بني مسوس "الجزائر العاصمة"، الذي تخصص في مجال محاربة الجماعات المسلحة، وكانت لنا كتيبة تعمل في أعالي العاصمة ويمتد نشاطها من منطقة بولوغين مرورا بالسيلاست وبوزريعة إلى غاية غابة بينام الساخنة، وقد كنت أتابع في مركز العمليات ما يتردد عبر اللاسلكي بين كتائب الجيش في المدية والبليدة، وكنت أسمع من خلال الشفرات التي بحوزتي ما مفاده، أن القيادة تدعو وتحرص على حياة الرهبان بأي تكلفة كانت، كما وزعت علينا صور الرهبان وكنت أقوم شخصيا بتعريف كل عناصر الكتائب التي تعمل في مجال مكافحة الإرهاب على هؤلاء المختطفين، وهذه بصفتي كنت المحافظ السياسي للوحدة، وكنت أنقل لهم ما يأتينا من أوامر عليا، على أن القيادة العسكرية والجنرال محمد العماري شخصيا يحرص على حياة المختطفين، كما يطلب من جميع قوات مكافحة الإرهاب وفي حالة شك بوجود احد الرهائن مع عناصر تابعة للجماعات المسلحة فإنه يمنع منعا إطلاق النار عليهم، ولو كان العسكر ضحية لهجوم من طرفهم ، بل يجب توخّي الحذر في إصابة أي عنصر ممن يحتمل أنه أحد الرهبان المختطفين.
وقد زارنا خلال فترة الإختطاف الجنرال العودي عاشور وهو قائد قوات الدفاع الجوي عن الإقليم في تلك الأثناء، وكان برفقته عدة قادة عسكريين سامين، وما تحدث فيه معنا اللواء عاشور هو ضرورة الحرص على عدم التعرض للمدنيين، لأن الجزائر ستكون في فوهة بركان وخاصة من الطرف الفرنسي، وأذكر أنني سألته شخصيا عن قضية الرهبان المختطفين، فرد بالحرف الواحد: لو حدث مكروه لهم ستدفع الجزائر الثمن غاليا، وسنتهم نحن بالوقوف وراء قتلهم ولو كانوا الآن مع "الجيا"، وسنعمل على إسترجاعهم أحياء ليكشفوا للعالم ولفرنسا التي تأوي بعض المتطرفين على ترابها، حقيقة هذه الفصائل الإرهابية.
والتفسير الذي يمكن أن نخرج به أن قيادة المؤسسة العسكرية كانت حريصة جدا على حياة الرهبان، ومن يزعم أن السلطات كانت تريد قتلهم فهو مخطئ، بل كنا نتلقى الأوامر على أن نحافظ على حياة الرهائن لأنهم الوحيدون الذين بإمكانهم كشف تفاصيل التنظيمات الإرهابية من الداخل، وخاصة لما يكونوا أجانبا، لأن النظام كان منزعجا الى أبعد الحدود من تواجد أنصار جيهة الإنقاذ في الدول الأوروبية ويتمتعون باللجوء السياسي، وهم من يوفرون لهم الدعم والترويج الإعلامي والديني.
أمر آخر يمكن أن أضيفه أنه بعد عملية الإغتيال ذبحا وصدور بيان "الجيا" الذي تبنى العملية ووقعه جمال زيتوني، فقد حضرت محاضرة ألقاها الجنرال عبدالسلام بوشارب الذي شغل منصب مدير الإيصال والإعلام والتوجيه في وزارة الدفاع الوطني، التي كانت من قبل تعرف بالمحافظة السياسية، وقد كان ذلك بالمدرسة العليا للدفاع الجوي عن الإقليم "الرغاية"، وقد كشف لنا تفاصيل القضية حيث أكد في مجمل حديثه أن "الجيا" تراهن على أزمة ما بين فرنسا والجزائر من خلال ذبحهم للرهبان، وأن الجزائر خسرت كثيرا عندما لم تتمكن من فك أسر الرهبان الذين لهم مصداقية عالمية لدى وسائل الإعلام الغربية أو حتى لدى السلطات الأوروبية، بل أكد على أن الجيش كان مستعدا لدفع الملايير من أجل إطلاق سراحهم أحياء، ومما قاله أيضا وبتهكم: لو انه تم إطلاق سراحهم لقالوا أن الجيش هو من إختطفهم من أجل تشويه سمعة الإرهابيين !!.
أمر آخر مهم فقد كنت صيف 1997 بسجن البليدة العسكري حيث قضيت مدة نصف سنة تقريبا، وإلتقيت حينها بعسكريين من مختلف النواحي والكتائب، وقد أكد لي أحدهم وإسمه مراد – لا أذكر لقبه العائلي - وكان من القوات الخاصة ويتحدر من ولاية سوق أهراس، حيث شارك في عمليات التمشيط في جبال المدية بحثا عن الجماعة المسلحة التي تختطف الرهبان، وقد سجن بسبب رميه لقنبلة على حركة أحسها بين الأحراش ولحسن حظه أن الذي كان يتحرك هو خنزير وليس مسلحا، وقد عاقبه القائد لأن التعليمات التي وجهت لهم، أنه يجب الحفاظ على حياة الرهبان مهما كان الأمر، وان أي مقاتل قد يتورط في إطلاق النار أو يتسرع ويتسبب في إصابة أي أحد من المختطفين سيدفع الثمن غاليا، ولما سألته: وكيف يمكن أن تحرروهم وهم مع جماعة مسلحة ولديه الذخيرة؟
فأجابني: أن القيادة أمرتنا إن تم إكتشاف مكان تواجدهم فعليهم بمحاصرهم فقط وسيتم التفاوض معهم من أجل إطلاق سراح الرهبان ومقابل أي شرط يطلبونه.
ومما تقدم والذي أوردته بإختصار جد شديد، وليس دفاعا عن الجيش ولا عن أي طرف، إنما دفاعا عن الحقيقة والتاريخ ودم الرهبان الأبرياء، فقد تأكد أن المؤسسة العسكرية حرصت على حياة الرهبان كثيرا، وانهم كانوا يعتبرون طوق نجاة مهم في حربهم على الجماعات المسلحة.
المحور الثاني: أثناء فترة سجني عام 2005 حتى إلى 2006 في جناح الإسلاميين بسجن الحراش، إلتقيت بكثير من قدماء الجماعة الإسلامية المسلحة "الجيا" وحتى أمراء فيها، وكان أشهر من عايشتهم وتحدثت إليهم هو محمد شامة والمكنى "القعقاع" والذي كان الذراع الأيمن لعنتر زوابري أبرز الأمراء الدمويين، وهو يتحدر من منطقة بوقرة ولاية المدية، وقد إلتحق بالعمل المسلح عام 1993 وعايش أغلب أمراء "الجيا".
وتحدث لي هذا السجين المحكوم عليه بالمؤبد بتاريخ 21 مارس/آذار 2007، والذي سلم نفسه لمصالح الأمن في أكتوبر/تشرين الأول 2004 بعد عجزه التام، وإن كان هو يزعم أن مصالح الأمن قبضت عليه في سوق الحراش غدرا، وطبعا تفاديا لضغوطات وعقوبات كثيرة وسط المساجين الإسلاميين الذين يعزرون كل من ثبت عليه ذلك.
فقد قال لي القعقاع أنه التقى بالرهبان خلال فترة اختطافهم في جبال ما بين البليدة والمدية، وكانوا في ظروف سيئة للغاية فقد تعرضوا للتعذيب المبرح، لأنهم ظلوا يجبرون على نطق الشهادتين والصلاة بالإكراه كما يرغمون على التغوّط على الصلبان التي كانت معهم. وأخبرني أن جمال زيتوني ظل مصمما على قتلهم حتى ولو استجابت السلطات الفرنسية لمطالبهم، لأنه يراهم كفارا ويدعون للضلال في أرض الإسلام حسب زعمهم، كما انه لمس حرص "الطاغوت" – حسبه - على حياتهم، وأضاف لي على أن الأماكن التي تواجدوا بها لا يمكن أن تصل إليهم قوات الجيش أبدا، فقد كانوا في كهوف تحت الأرض وكل المنطقة محصنة بالألغام، وهذا الكهوف الحجرية لا تدمرها حتى القنابل النووية.
وحتى لا أعيد كل ما قاله لي القعقاع، فقد أكد على أن جمال زيتوني ذبح منهم ثلاثة رهائن وبيديه، وواحد ذبحه نورالدين بوضيافي وهو آخر أمراء "الجيا" ومن مواليد 14/06/1969 بالعامرية "ولاية المدية"، أما الآخرون فقد تداول عليهم بقية الأمراء، ولم يسمح للجند بالمشاركة في العملية التي كانت تعد تاريخية ولا ينال "الشرف" إلا الأمراء والقادة !!.
ونقل القعقاع على لسان زوابري قوله في أحد المرات وهو يتحدث عن جمال زيتوني وقصته مع الرهبان، أنه إقترح على جمال زيتوني قتل واحد والتهديد بقتل الآخرين وكل مرة لا تستجيب فرنسا يذبحون راهبا ويوزعون الصور، وأكيد بعد قتل ثلاثة ستخضع فرنسا لمطالبهم وتضغط على الجزائر كثيرا، ويكون للقضية تأثير وصدى دولي أكبر من نحرهم دفعة واحدة، غير أن زيتوني – حسب زوابري – رفض ذلك، وتحجج بأنه سيخطف حتى السفير الفرنسي وأن النصر حليفهم قريبا. وقد سألته عن ما يقال لدور ما للمخابرات في ذبح الرهبان، فقد نفى ذلك نفيا قاطعا وقال لي بالحرف الواحد: لو لم يقتلهم زيتوني وبقوا على قيد الحياة ما إستطاعت المخابرات ولا الجن الأزرق أن يصل إليهم !!.
أما عبدالقادر الروجي واسمه الحقيقي محمد صدوقي فقد كان ضمن كتيبة تنشط في منطقة الأربعاء بالبليدة، والذي إستفاد من عفو ميثاق السلم والمصالحة شهر مارس/آذار 2006 ولكنه عاد للعمل المسلح وقضت عليه مصالح الأمن لاحقا، فقد أكد لي أن جمال زيتوني هو من قام بذبحهم، وإن إختلف مع القعقاع حول عدد الرهبان الذين ذبحهم زيتوني بيده، فقد أصرّ الروجي على ذبح أربعة من طرف الأمير الوطني لـ "الجيا".
وهذا الذي سمعته أيضا من عند عوار محمد وعزوق مقران المحكوم عليهما بالإعدام، وهم من آخر عناصر تنظيم "الجيا" الذين قبض عليهم. وهذه شهادات أخرى من وسط التنظيم المثير للجدل "الجيا"، والتي تؤكد على أن أمير الجماعة جمال زيتوني هو من قام بذبح الرهبان، وليس كما صار يروج سواء عن طريق وسائل الإعلام الفرنسية أو بعض ممن يبحثون عن الأضواء وللأسف بينهم من أبناء الجزائر.
إنطلاقا مما تقدم فقد تأكد لدينا أن المؤسسة العسكرية الجزائرية كانت تحرص على تحرير الرهبان ومهما كان الثمن، لإعتبارات عديدة اشرنا لبعضها، وأيضا أن هؤلاء كانوا في نظر الجماعة المسلحة "الجيا" كفارا يمارسون نشاطا من أجل توريط الجزائريين في الردة، فضلا من كل ذلك أن إثارة الحرب مع فرنسا سيجعل الجزائريين الناقمين من الإستعمار يتعاطف معهم ويدعمهم، وهي من أبرز دوافع تصفيتهم وبطريقة قذرة من طرف جمال زيتوني.
هذه بعض النقاط التي أردت توضيحها على عجالة، ونحن تحت تأثير هذا الملف الذي فتحته فرنسا مجددا وباركه ساركوزي وحفز عليه، ولست أريد تبرئة الجيش أو أي طرف من الدماء التي سالت كما قد يخيل للبعض، أو أنني أشتري ود النظام القائم، فالموضوع الذي تحدثت فيه يتعلق بأولئك الرهبان المسالمين الذين قتلوا ظلما وعدوانا وسيظل دمهم لعنة تطارد الجميع في الجزائر، إن لم يتم فك طلاسم تلك الحرب التي أهلكت الحرث والنسل...
قد يهب البعض لإطلاق النار علي بزعم تبرئتي للجيش من تلك الحادثة القذرة والدموية وخدمتي المجانية له، ولكن هذه هي الحقيقة التي أعرفها وعايشتها، وضميري وأخلاقي تفرض علي أن اصدح بها ولو كانت في صالح النظام الجزائري، لأن نضالنا من أجل الحقيقة ولا تهمنا في صالح من ستكون، ولنا عودة لملفات أخرى برؤية أعمق وأوسع وأصدق إن شاء الله.
*****بقلم: أنور مالك - كاتب وضابط جزائري سابق لاجئ بفرنسا
0 التعليقات:
إرسال تعليق