شكلت سنة 2009 اختبارا حقيقيا لجدية ودرجة انفتاح الدولة على الإسلاميين في المغرب، وخاصة أن هذه السنة تزامنت مع مرور عقد على تولي محمد السادس الملك، ومع تنظيم انتخابات بلدية ومهنية، إضافة إلى مخلفات سنوات الحصار المضروب على جماعة العدل والإحسان، ومصير ملف معتقلي ما يسمى "السلفية الجهادية" وكذا المعتقلين السياسيين الستة في ملف خلية بلعيرج.
ولاشك أن انتهاء هذه السنة مناسبة لاستقراء مجمل وقائعها وأحداثها لاستنتاج خلاصة يمكن وصفها باستمرار الارتباك في تدبير هذا الملف بسبب الازدواجية والتردد اللذين يطبعان سلوك مسؤولي الدولة.
لقد تراوحت سياسة الدولة بين التضييق المرن والانفتاح الحذر، وبين الرغبة في الإدماج ولكن بخلفية الاحتواء، وبين توسيع هامش الحركة ولكن بضبط وتحكم يحول دون حصول أية مفاجأة.
وتميزت هذه السنة باستهداف إشعاع الإسلاميين للحد من تداعياته على المجتمع، وبالمقابل فتح مجالات لما يمكن الاصطلاح عليه بـ"الإسلام الرسمي" والمتمثل في تفعيل الصفة الدينية للملك من خلال استمرار هيكلة الحقل الديني وفتح الباب لفاعلين دينيين جدد.
العدل والإحسان .. حصار مستمر
لم تشهد هذه السنة أي انفراج في علاقة الدولة بجماعة العدل والإحسان، أكبر التنظيمات الإسلامية وأكثرها معارضة للنظام القائم، حيث استمرت، للسنة الثالثة على التوالي، الحملةُ المخزنية على الجماعة مستهدفة أنشطتها وقياداتها وأعضاءها ومواردها وإعلامها. وللتذكير فقد بدأت هذه الحملة في 21 ماي 2006 بعد تنظيم الجماعة للأبواب المفتوحة التي شهدت إقبالا كثيفا على فعالياتها مما استفز السلطات المغربية.
عرفت سنة 2009 أزيد من 60 محاكمة كان ضمن المتابعين فيها قيادات من الجماعة مثل الأستاذ محمد عبادي والأستاذ منير الركراكي عضوي مجلس الإرشاد، والعديد من القيادات المحلية للجماعة، كما عرفت إيقاف المئات من الأعضاء واستنطاقهم في مخافر الشرطة، بما في ذلك عشرات النساء، ومنع عشرات اللقاءات التربوية "مجالس النصيحة" ومنع قيادات من الجماعة من الفضاءات العمومية والساحات الجامعية، وحجب المواقع الإلكترونية للجماعة لمدة شهر كامل ابتداء من 17/1/2009.
وبالمقابل شهدت حركية العدل والإحسان نوعا من الإشعاع مقارنة مع السنة السابقة، حيث تفاعلت الجماعة مع العديد من المبادرات الداعية إلى التضامن مع القضية الفلسطينية فنظمت خلال السنة أزيد من 250 وقفة، وطالبت بوضع لائحة سوداء بأسماء المطبعين مع "إسرائيل".
ومن جهة ثانية، كشفت الجماعة لأول مرة بشكل تفصيلي عن كواليس المفاوضات التي أجرتها مع الدولة في بداية التسعينات (تم ذلك في لقاء صحفي نظمته الجماعة يوم 21 ماي 2009)، وأصدرت الجماعة كتابا جديدا للمرشد عبد السلام ياسين بعنوان "إمامة الأمة" في ماي 2009.
وعرفت هذه السنة صدور التقرير السياسي الذي تضمن تشخيص الجماعة لمختلف التطورات التي تعرفها البلاد، وقد صدر التقرير عن الدورة الثالثة عشرة للمجلس القطري للدائرة السياسية للجماعة -أكتوبر 2009-، والجديد هذه السنة هو نشره للعموم مما يؤشر على استمرار الجماعة في نهجها الانفتاحي رغم التضييق عليها.
ويبقى أهم حدث ميز هذه السنة هو الإفراج عن طلبة العدل والإحسان بعدما أمضوا مدتهم الحبسية كاملة، وبعدما تم استثناؤهم من مختلف مبادرات العفو التي عرفها المغرب منذ بداية التسعينات رغم انطباق كل المعايير المعتمدة عليهم. وما شكله هذا الحدث المهم من حركية ونشاطات داخل الجماعة سواء في استقبال المعتقلين بباب سجن بوركايز، أو في الحفل الرسمي المخصص لهذه المناسبة بسلا، أو في حفلات الاستقبال المحلية.
وفي المحصلة يستنتج أن لا جديد ولا انفراج في علاقة الدولة بالجماعة خلال هذه السنة.
العدالة والتنمية .. انفتاح حذر
رغم انخراط العدالة والتنمية في اللعبة السياسية بشروط الدولة إلا أنه لم تسلم من الضغط والتضييق، وكان الحزب هو المستهدف الأساس من كل التعديلات التي عرفها القانون والتقطيع الانتخابي، بل وصل الأمر إلى حد قيادة حملة تستهدف تشويه حصيلة تدبيره لأهم مدينة كان يتولى الحزب تسييرها -والمقصود مدينة مكناس التي كان بلكورة عمدتها- ويقدمها كنموذج على نجاحه وأحقيته في تدبير مدن كبرى.
لقد احتد التضييق على العدالة والتنمية ليشمل الإعلام حيث قادت ضده جهات نافذة في الدولة حملة إعلامية للمس بمصداقيته وكفاءة قيادته، وليشمل تقوية خصمه اللدود حزب الأصالة والمعاصرة الذي يعتبر صديق الملك فؤاد عالي الهمة عرابه وقائده الفعلي، وليشمل كذلك محاولة عزل الحزب حتى لا يكون طرفا في تحالفات قد تقوده لتسيير مدن كبرى.
ولكن الملاحظ، رغم كل هذه الوسائل، أن الحزب استطاع امتصاص هذه الحملات، حيث احتل المرتبة الأولى في المدن، وانتقل عدد مستشاريه من 600 إلى 1500 مستشارا، ووصل عدد البلديات التي يسيرها إلى 50 عوض 17، أما البلديات التي يشارك في تسييرها فقد انتقلت من 48 إلى 150 بلدية.
وفي المحصلة يمكن القول بأن انفتاح الدولة على هذا الحزب ما زال حذرا ومحدودا بسبب غياب رؤية واضحة لدى الدولة، أو بسبب تضارب في دائرة صناعة القرار السياسي، أو بسبب عدم استعداد الدولة لأداء تكلفة هذا الانفتاح.
المعتقلون الستة .. استمرار القبضة الحديدية
رغم حجم التعاطف الشعبي والسياسي الذي حظي به المعتقلون المنتمون لحزب البديل الحضاري (محمد معتصم، ومحمد الأمين الركالة) والحركة من أجل الأمة (محمد المرواني) ومراسل المنار (عبد الحفيظ السريتي) وعضو المجلس الوطني للعدالة والتنمية (العبادلة ماء العينين) فإن الدولة استمرت في سياساتها المتشددة تجاههم، أي اتهامهم بتهم مستغربة ومستنكرة كالمس بسلامة الدولة وتكوين عصابة إجرامية والإعداد لارتكاب أعمال إرهابية!!
ورغم طول مدة المحاكمة ومرافعات الدفاع والوقفات الاحتجاجية على اعتقالهم والتي عرفت مشاركة متضامنين من مختلف التيارات والمشارب، وبروز أكثر من مناسبة لتدارك هذا الخطإ فإن الدولة فاجأت الجميع يوم 2 يوليوز 2009 بإصدار أحكام قاسية في حق هؤلاء المعتقلين، تراوحت بين 25 سنة وعشرين سنة، مما شكل سابقة في تاريخ المغرب وإيذانا باستمرار القبضة الحديدية تجاه شريحة من الإسلاميين ما فتئوا يعلنون رفضهم للعنف ورغبتهم في العمل الحزبي القانوني.
على هذا المستوى أكدت الدولة أن لا رغبة لها في الانفتاح على فاعلين إسلاميين آخرين يمكن أن يبعثروا كل الأوراق.
السلفية الجهادية .. لا تنفع المراجعات
رغم إقرار الملك بتجاوزات ارتكبت أثناء محاكماتهم، ورغم حجم التعاطف الحقوقي الذي لقيته قضيتهم، ورغم تأكد كل المتتبعين بأن هناك العديد من الذين اعتقلوا خطأ في الحملات الأمنية المبالغ فيها التي أعقبت التفجيرات الإجرامية، سواء تفجيرات 16 ماي أو ما تلاها، ورغم مبادرة العديد من رموز هذا التيار بمراجعات فكرية لها أكثر من دلالة، ورغم طلبات العفو التي تقدم بها العديدون منهم، ورغم المطالبات الكثيرة بإعادة محاكمتهم.. رغم كل ما سبق استمرت الدولة في سياستها المتشددة في هذا الملف غير مكترثة بالإضرابات والاحتجاجات التي عرفتها مختلف سجون المغرب.
وكل هذا يؤكد أن الدولة غير مستعدة لفتح هذا الملف وإعادة النظر فيه بعيدا عن أجواء التشنج وردود الأفعال التي رافقت حملة الاعتقالات والمحاكمات عقب الأحداث التفجيرية التي عرفها المغرب منذ 2003.
الشيعة .. مستهدفون كذلك
ولعل أهم ما ميز هذه السنة هو إقدام المغرب على قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران بسبب تداعيات الخلاف بين البحرين وإيران، وقد كان من انعكاسات هذه القضية استهداف العديد من المغاربة الشيعة بدعوى خرقهم للوحدة العقدية والمذهبية للبلاد، وكذا حجز العديد من الكتب والمنشورات من المكتبات والبيوت.
وهذه كانت رسالة واضحة من الدولة مفادها عدم استعدادها لأي انفتاح في هذا المجال.
والغريب هو تساهل الدولة في المقابل تجاه تيارات أخرى لا تقل خطورة على تدين المغاربة من التشيع، والمقصود بها حملات التنصير والتمييع والدعوة إلى الشذوذ الجنسي وإفطار رمضان!!!
هيكلة الحقل الديني..خطوات جديدة
في مقابل التضييق الذي طال الإسلاميين، تميزت سنة 2009 بتفعيل هيكلة الحقل الديني من خلال العديد من البرامج والخطط مثل ميثاق العلماء وتأسيس المجلس العلمي للمغاربة بأوربا والرفع من عدد المجالس العلمية.
لقد أعطى الملك انطلاقة تطبيق خطة ميثاق العلماء خلال هذه السنة بمناسبة انعقاد الدورة العادية الأولى للمجلس العلمي الأعلى في أبريل 2009، وأطلقت الدولة، تفعيلا لهذا الميثاق، برنامجا لتأهيل أئمة المساجد سيستفيد منه 45 ألف إمام بكلفة 200 مليون درهم، ولم يفت وزير الأوقاف أن يعلن بأن 1500 مؤطرا في كل البلديات القروية والحضرية سيشرفون على هذه العملية "الكبرى غير المسبوقة" التي تتوخى تمكين الأئمة من أداء مهامهم على أكمل وجه، وإيجاد تأطير ديني مناسب لمجتمع حريص على ثوابته ومقوماته وهويته، إلى جانب ملاءمة هذا التأطير مع جمهور "جديد متطلب وأكثر وعيا". مع الإشارة إلى أن هذا البرنامج شامل ودائم وإجباري بالنسبة لجميع الأئمة على تفاوتهم، فضلا عن كونه سيشكل بالأساس لقاء تواصليا روحيا ربانيا أكثر منه تعليميا "للإحاطة بالإطار المذهبي والمؤسساتي الذي يشتغل فيه الأئمة".
وبموازاة ذلك تم رفع عدد المجالس العلمية بحيث أصبح في كل إقليم أو عمالة مجلس علمي محلي يمثله، وانتقل بذلك عدد المجالس العلمية المحلية من 30 إلى 70 مجلسا ضمنها المجلس العلمي للمغاربة بأوروبا بعد أن لم تكن هذه المجالس تتعدى سوى 18 مجلسا، وقد تمت هذه الزيادة ـ حسب الوزارة المعنية ـ ترسيخا لعمل القرب الضروري في هذا الميدان، وتأكيدا للصفة المزدوجة للنظام المغربي الذي يجمع بين الشأن الديني والشأن الدنيوي.
على هذا المستوى شهدت السنة حيوية كبيرة في المؤسسة الدينية الرسمية هدفها بالأساس اكتساح مجالات كانت حكرا على الحركات الإسلامية.
الصوفية .. رهان المرحلة
واستمرت الدولة في دعمها للطرق الصوفية، حيث شهدت هذه السنة تنظيم أكبر ملتقى للمنتسبين للتصوف، والمقصود به الدورة الثانية للقاءات سيدي شيكر العالمية للمنتسبين إلى التصوف، الذي نظمته وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في يوليوز 2009 والذي عرف مشاركة أكثر من 25 طريقة صوفية من مختلف دول العالم. والإشارة الثانية تمثلت في تعيين شيخي الطريقة التيجانية والكتانية يوم 27 فبراير 2009.
وهذه إشارات تؤكد استمرار الدولة في الرهان على الفاعل الصوفي للتضييق على انتشار الحركات الإسلامية، وخاصة العدل والإحسان. وقد ابتدأت هذه السياسة بتعيين السيد أحمد التوفيق في نونبر 2002 وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية وهو المعروف بأنه من رموز الطريقة البودشيشية.
خلاصة
كانت هذه محاولة لرصد أهم الأحداث التي ميزت سنة 2009 فيما يخص تدبير الدولة لملف الإسلاميين، ويتضح من خلال تتبعها واستقراء خلفياتها استمرار الحيرة والارتباك والتردد والازدواجية. وهذه هي خلاصة هذه السنة
عمر احرشان
0 التعليقات:
إرسال تعليق