الفأل وقراءة الغيب (د. مصطفى واعراب)

رأينا فيما سبق ان اهم نوعين من السحر في انحاء العالم المتفرقة، حسب وجهة نظر وليام هاولز هما: السحر العلاجي وسحر التنبؤ بالغيب، ويرد عالم الاجتماع والانثروبولوجيا البريطاني ذلك الى كون المرض العضوي والشك هما اقصى اسباب القلق الاجتماعي والشخصي وطأة على البشر.

وبعد ان عرضنا للكثير من وصفات السحر العلاجي، على مدى الحلقات السابقة، سنتوقف فيما يلي عند اهم الطرق المستعملة لقراءة الغيب (بمعناه الواسع) باعتبارها ضربا من ضروب السحر، دون ان ننسى الحديث عن الفأل، الذي هو شكل من اشكال التنبؤ بالمستقبل.

الأسرار
طرق الغيب كثيرة ومتنوعة، والذي يلوذ بالسحرة يجد في جعبتهم دائما، اكثر من حل للمشكلة الواحدة، فلكي يكشف احدهم عن سر يؤرقه، يحضر الى بيته ساحرا، ويدعو عنده بنت الجيران الصغيرة، يكتب الساحر بعض العبارات السحرية على ذراعها وجبهتها ثم يوقد بعض البخور التي يلف دخانها الكثيف الصغيرة، وينتظر الوقت الكافي حتى تسقط الفتاة الصغيرة متصلبة الجسم، بعد ذلك يسألها عن الموضوع الذي من اجله قدم الى البيت: للكشف عن مصير شخص غائب، قراءة المستقبل، فضح النوايا الخبيثة لمن يتربص بهم، الخ، فتخبره الصغيرة بما اراد معرفته وهي غائبة عن الوعي.

ان الاطفال خلال المرحلة التي تسبق بلوغهم «لا يكذبون» فأقوالهم، حسب معتقداتنا الشعبية، صادقة كما هو صادق فألهم دائما وذلك نجد ان اغلب وصفات الكشف عن الاسرار المختلفة تعتمد بشكل رئيسي على مشاركتهم في الطقوس المسرحية التي يشركهم في لعبها الكبار.

وكان اليهود المغاربة عندما يريدون الكشف عن سر يبحثون عن فتاة صغيرة تكون عذراء وسنها يراوح بين 11 و13 سنة يحممونها ويلبسونها ملابس نظيفة، وفي الليل عندما تنام الطفلة يأخذون ابرة ويغسلونها سبع مرات ويغرزونها في ضفيرة شعر الصغيرة اليمنى ويحرقون قريبا من وجهها الجاوي وبعض البخور الاخرى، وعندها تنتابها حالة من الهيجان، فتبدأ في الكلام بصيغة الجمع معبرة باسم الارواح التي مستها، وتسأل الحاضرين عما يريدون معرفته فتجيبهم عنه، ان تعاون الاطفال مع السحرة من اجل الكشف عن خفايا الآخرين يعتبر شرطا اساسيا لنجاح العملية بحيث ان الاستعاضة عنهم بالكبار لا يبدو مجديا ومن المدهش ان الرحالة المغربي الحسن الوزان قد انتبه الى حقيقة ألاعيب السحرة الذين يستغلون سذاجة الاطفال، حين نقل في (وصف افريقيا) مشاهد من حلقاتهم في فاس القرن السادس عشر، حيث يقول في وصف العرافين انهم «يجعلون الماء في قدر لماع، ويرمون فيه قطرة زيت فيصير شفافا، ويزعمون انهم يرون فيه كما يرون في المراظة جماعة من الشياطين القادمين بعضهم خلف بعض كأنهم كتائب تعسكر وتضرب الخيام» ويضيف قائلا: «يضع هؤلاء العرافون احيانا القدر (قدر الماء) بين يدي الطفل، ويسألونه هل رأى الجني الفلاني او غيره، فيجيبهم الطفل الساذج بنعم، لكن لا يدعونه يتكلم وحده».

معرفة السارق
ولأن في وسع الساحر ان يقرأ الغيب من خلال تسخيره للإنس والجن، فإنه يكون مقصد من تعرض لسرقة خصوصا اذا كان المشكوك في كونه السارق ينتمي الى المحيط الاسري للمسروق ويرغب هذا الاخير بالتالي في استرجاع مسروقه بلا ضجة.

واغلب وصفات السحر التي يعملها الساحر بهذا الخصوص تتطلب مشاركة طفل او كفل ايضا، عدا عن تلك التي تعتمد على طقوس مكتوبة (طلاسم) وتبدأ لائحة الوصفات التي استطعنا تجميعها من مصادر متفرقة مكتوبة وشفوية بوصفة طريفة يقول فيها البوني: اذا اردت اظهار اسم السارق فخذ ورقة وشمعها وارمها في الماء واتل العزيمة، فتنط (تقفز) الورقة، فخذها تجد اسم السارق وتعريفه مكتوبين فيها (كذا).
اما الوصفات الشعبية فلا تقل غرابة، حيث تشير واحدة منها الى انه للكشف عن هوية السارق، يكفي ان تضع لمن تشك فيه، لسان ضفدع في خبز وتناوله اياه، وما ان يأكله حتى يسارع الاقرار بفعلته.
ويقول السيوطي انه لرؤية السارق، تأخذ بيضة دجاجة وتكتب عليها من أول سورة «الملك» الى حسير ثم تدهنها بالقطران وتعطيها لصبي ثم تقرأ سورة «يس» والصبي ينظر اليها فإنه ينظر (فيها) السارق.
ومن الوصفات الاخرى التي يزعم السحرة انها تنفع لمعرفة هوية السارق، ان تحضر طفلة بكرا (دليل الطهارة في المجتمعات العربية) وتأمرها ان تعجن فطيرا بلا ملح، وتخبزه وهي صائمة، ثم تعمل من اللقم على عدد المتهمين بالسرقة وتكتب على كل لقمة هذه الآيات: قال معاذ الله ان نأخذ الى: الظالمون ان الله لا يخفي عليه شيء في الارض ولا في السماء، واذ قتلتم نفسا الى تكتمون والسارق والسارقة فاقطعوا الى: نكالا من الله يتجرعه الى بميت ان لدينا انكالا الى أليما حتى اذا بلغت الحلقوم الى: تنظرون وتكتب كل هذه الآيات الطويلة في كل لقمة، وتطعم كل واحد من المتهمين لقمة، فمن كان بريئا اكل اللقمة وبلها، ومن كان سارقا لم يجد في فمه رقا لكي يمضغها به.

الفال
الفأل او الفال في اللغة الفصيحة هو كل قول او فعل يستبشر به او يتطير منهن ويحفل الفلكلور المغربي على غرار الفلكلور العالمي بالكثير من المعتقدات التفاؤلية او التشاؤمية ان الفأل هو ادراك سابق لما سيحصل للإنسان في اعقاب مصادفة (كلمة او حركة او لقاء سعيد او مشؤوم) وذلك بحسب تأويل المعتقدات السائدة.

ويعتبر الصباح اكثر فترات اليوم حرجا بهذا الخصوص حيث من شأنه اية مصادفة تحدث خلاله (سعيدة كانت او مشؤومة) أن تؤثر على باقي اليوم, فعندما يصادف الرجل اثناء مغادرة بيته في الصباح الباكر حيوانا او انسانا ذميم الخلقة، مثلا، فإن ذلك يعتبر فألاً مشؤوما ينذره بأن يومه لن يمر على خير وقد يدفع به حذره الى العودة الى فراش النوم ويقينه كامل في انه بذلك يتفادى مصيبة او مصائب كانت تنتظره لو اكمل مشوار يومه كما كان ينوي وثمة اشكال اخرى كثيرة من الفال، تعني في معتقد العامة تنبؤات سعيدة او مشؤومة، نكتفي منها بالامثلة التالية.
اذا تمرغ الكلب في رماد الكانون (الحفرة التي توقد فيها نار الحطب) فذلك يعني بالنسبة للفلاح ان المطر سيهطل، اما يحدق القط في صاحبه وهو يحك وبره، فمعنى ذلك ان الصاحب سيحصل على رزق وفير.
وكان المغاربة في الماضي عندما يذهبون الى الحروب يتفاءلون او يتطيرون من اي شيء يصادفهم على الطريق فإذا التقوا اسدا او خنزيرا بريا اعتبروا ذلك فألا حسنا، اما اذا صادفوا ارنبا بريا فإنهم يتشاءمون من ذلك، ويتوقفون عن المسير ويدقون اوتاد الخيام، الى ان يظهر ما يجعلهم يتفاءلون.
وتتعدد اساليب وطرق قراءة الطالع باختلاف العرافين والعرافات, ففي حضرة «الشواف» او الشوافة وهو الاسم المحلي لأهل التخصص يقع الزبائن في حيرة الاختيار بين ورق اللعب (الكارطة) او الرصاص المصهور (اللدون) او ضرب الخط الزناتي، او دعوة الارواح، او القراءة في السبحة (التسبيح) الى آخر اللائحة.
ونقدم في ما يلي اطلالة على بعض من اكثر طرق «الشوافة» تداولا,,.
الكارطة
تعتبر قراءة الطالع من خلال تفحص ورق اللعب (الكارطة) تخصصا نسائيا بامتياز تمارسه نسوة معروفات في منازلهن او في جوار بعض الاضرحة او الاسواق المتخصصة في ترويج مستلزمات السحر (كسوق جمعية بالدار البيضاء) ونظرا للمبالغ المالية الزهيدة التي تتلقاها قارئات الكارطة في مقابل خدماتهن (10 الى 20 درهماً) فإن الاقبال عليهن لا ينقطع, والملاحظ ان اسلوب عمل كل «شوافة» يختلف عن الاخرى، ولذلك سوف نكتفي بالتطرق هنا لطريقتين لاحظناهما عن قرب:
الحالة الأولى:
قامت الشوافة بخلط أوراق «الكارطة» بحركات سريعة من يديها، ومدتها للزبونة الجالس امامها في صمت، طالبة منها اختيار ورقة منها، دون ان تنظر الى شكلها، وكذلك فعلت الشابة، تطلعت الشوافة الى الورقة الممدودة اليها وبدأت تتفحص الرسم الملون المثبت عليها، ثم غيرت ملامح وجهها، فبدت حزينة وهي تخاطب زبونتها الشابة قائلة: سوف تنالين كل ما تمنيته في صغرك، لكن سوف يتسلط عليك مرض «صعيب» يا بنتي، وستموتين صغيرة؟ بدأت الزبونة تنتحب فأعادت الشوافة تكرار حركاتها وطلبت منها مجددا ان تختار ورقة اخرى، «لعل وعسى,,,» لكن اطلاعها على اختيار اليد المرتعدة للشابة جعلها لا تغير ملامح وجهها المتجهمة، واكتفت بأن اصافت قائلة: «الكارطة ما تكدبش» بمعنى انها تتشبث بكلامها الاول.
الثانية
خلطت الشوافة اوراق اللعب البالغة اربعين ورقة وخلطتها في حركة سريعة، ثم وزعتها على ثلاث مجموعات وضعتها مجددا ثم وضعتها على مجموعة ثانية من اوراق اللعب وقالت: «هذا تخمامي» ثم عاودت نفس الحركة وقالت وهي تضع يدها على المجموعة الاخيرة من الاوراق «هذا باش يأتيني الله» بمجرد انتهاء الزبونة من تسمية مجموعات الورق الثلاثين حسب اختيارها، تناولت كل مجموعة على حدة وشرعت توزع ورقاتها على الطاولة من اليمين الى اليسار, وبين الفينة والاخرى تتوقف عند ورقة معينة لتقرأ من خلالها ما يبدو انه معنى تشير اليه, وبعد ان انتهت من تشخيص حالة الزبونة من خلال قراءة «فالها» و«تخمامها» وتحديد اسباب ومصادر ما تعانيه، اتى دور اوراق المجموعة الثالثة التي كشفت لها من خلال تقليب اوراقها بعناية ما سوف «يأتيها به الله» حيث بشرتها بقرب قدوم عريس ليطلب يدها واعطتها حتى ملامحه العامة «ما طويل ما قصير» ما ابيض (البشرة) ما احمر,,, اي انه ليس لا طويل ولا قصيرها ولا ابيض البشرة ولا اسمر، الخ,,.
وعن السؤال المحرج: كيف تتوصلين الى رؤية ما لا يراه الآخرون، في مجرد اوراق لعب ملونة؟ اكتشفت «الشوافة» الأولى بتذكير السائل بأنها سبق ان اشترطت عليه عدم طرح اسئلة قبل ان تتقبل حضوره الثقيل على مضض, اما الشوافة الثانية فردت على السؤال بأن السر يكمن في موهبة ربانية، لا يعقل ولا يمكن لها ان تفصح عنها هكذا، لأي كان.
اللدون
مثل قراءة الطالع بورق اللعب، لا تبدو طريقة الرصاص المصهور قديمة جدا في المغرب، في مؤلفه الموسوعي عن السحر والدين في شمال افريقيا الذي مر على نشره زهاء قرن من الزمان، يتحدث ادموند دوتيه بصيغة الشك عن وجود عرافين يقرأون الطالع بطريقة «اللدون» في الجزائر (فقط) حيث يقول: «يوجد ايضا في الجزائر (العاصمة) فيما يبدو سحرة يتكهنون بالمستقبل من خلال تفحص صفحة الرصاص المذوب:
ومهما يكن مصدر هذه التقنية وتاريخ ظهورها بين عرافي وعرافات المغرب، فإنها اليوم من اوسع طرق قراءة الطالع انتشارا في بلادنا, وقد سبق لنا ان تطرقنا لها كتقنية سحرية تستعمل ايضا ضمن طقوس قطع التابعة في سيدي عبد الرحمن الجمار بالدار البيضاء.
ولقراءة الطالع، تقوم الشوافة بما يلي: تأخذ قطعة من الرصاص «الدون» تدورها حول رأس الزبون ثلاث مرات، ثم تلمس بها كتفه اليمنى واليسرى بعدها فالبطن جهة السرة قم القدمين وهي تغمغم اثناء ذلك كلاما لا يفهم منه الا اسم الله تعالى وبعض المقاطع من سور قرآنية، ثم تضع الرصاص في آنية معدنية فوق نار موقدة.
ولأن الرصاص لا يتطلب درجة حرارة عالية كي ينصهر فإن سرعان ما يذوب ويتحول الى سائل متحرك في الاناء اثناء ذلك تضع الشوافة سطلا به ماء بارد بين الرجلين المفتوحتين للزبون الواقف ثم تفرغ الرصاص المذاب في الماء فيتصاعد منه بخار مع جسمه, تنتظر الشوافة قليلا حتى تبرد قطعة «الدون» فتتناوله من السطل، لتقرأ في حفرها وندوبها معالم مستقبل الزبون، ويبدو ان ذكاء ودهاء الشوافة ومدى قدرتها على الاقناع، هي ما يمنحها الكلمات التي ينتظرها منها الزبائن، دائما.

الخط الزناتي
يعتبر (ضرب الرمل) او (خط الرمل) تقنية سحرية لاستقراء الغيب، ويحفظ اسرارها السحرة المحترفون, وتستمد اسمها من ممارسة قديمة كانت تقوم على رسم خطوط سحرية من خلال «ضرب الرمل» او التراب بأصبع من اصابع اليد، ثم تفحص الاثر الناتج عن الضرب ومقارنته بمجموعة من الآثار التي يتضمنها جدول سحري معلوم وبالطبع، فإن لكل اثر من تلك الآثار قراءة خاصة لما يخفيه الغيب لصاحب الاثر.
وقد عرف «خط الرمل» هذا تحت اسم اشتهر به كثيرا هو «الخط الزناتي» نسبة الى الشيخ محمد الزناتي الذي طوره ووضع له اسسا وقواعد «علمية» ضمنها مؤلفه الشهير: «كتاب الفصل في اصول علم الرمل» فتطورت الممارسة وانتقلت فيما بعد من ضرب الرمل على الارض الى «علم معقد» «يمارس بالمداد والورق ولا يفلح فيه إلا الحاذق من الفقهاء السحرة الذي يكون متمكنا من هز الخط: اي رفع الاثر وقراءته لطالب الاستشارة».

ويتضمن «علم الرمل» 16 شكلا من الاشكال التي يفترض ان يأخذها الرمل بعد «ضربه» وحتى اذا لم يأخذ احد تلك الاشكال ان ثمة قواعد معقدة تسمح للساحر بأن يعدل الاثر المحصل عليه حتى يأخذ واحدا من تلك الاشكال الستة عشرة.
ويعتبر الخط الزناتي اكثر اشكال قراءة الطالع مصداقية نظرا للهالة العلمية التي تحاط به في وسط العامة والحقيقة ان الشيخ الزناتي ومن جاء من شيوخ الحكمة قد بذلوا جهدا كبيرا في جعل خط الرمل شبيها بأبراج الكواكب والنجوم ففي مقابل اسماء الابراج الاثنى عشر اطلقوا على «اشكال الرمل من الاسماء على التوالي: الاحيان، القبض الداخل، القبض الخارج، الجماعة، الجودلة، العقلة، افنكيس، الحمرة، البياض، النصرة الداخلة، العتبة الخارجة، العتبة الداخلة، الطريق، الاجتماع، نقي الخد.
وقد ابدع الشيخ الادهمي في نظم دلالات الاشكال في ابيات شعرية، حتى يسهل حفظها فيما يبدو، ويقول مثلا في من طلع له في (هز الخط) الشكل التاسع (حسب ترتيب الاشكال في الجدول) وهو المسمى البياض وعلاماته هي ما يلي:
سوف تحظى بنيل كلا مرام
بعد قهر الاضداد والجساد
قد اتاك البياض ينبي بهذا
وعلى الله في الامور اعتمادي
وان كان موقف العامة المتشبث في الاعتقاد بصدق الخط الزناتي فإن الذي يبعث على الاستغراب مرة اخرى هو كون مفكر عبقري من حجم العلامة عبدالرحمن بن خلدون لم يخف في مقدمته الشهيرة اعتقاده في صدق هذه التنبؤات المستقبلية التي تعتمد على ضربات الحظ في الرمل.
الدم والقربان
يثير الدم في النفس البشرية مشاعر غامضة، تتأرجح بين الخوف والتقديس، فسهولة انسيابه، حرارته، لونه الاحمر القاني ورائحته المتميزة، جميعها خصائص تثير بعنف خيال الناس قليلي المعرفة ان الدم هو طابور بالنسبة للمغاربة اذ يحرمون تناوله في الاكل او الشراب ويحذرون ان يطأوا بقعة دم منتشرة على الارض بل انهم يتجنبون مجرد الاقتراب من اماكن تواجد الدم لاعتقادهم في ان الجن يتردد عليها.
وبسبب كل ذلك وغيره يحظى الدم في اعتقادهم بخصائص سحرية تجعل منه احد العناصر المهمة في وصفات السحر، سواء أكان الدم دم بشر او حيوان, فبالنسبة للسحر بالدم البشري يحفل التراث السحري بالكثير من الوصفات التي تستعمل في الغالب اما دم الشخص نفسه المستفيد من العملية السحرية (وصفات الحب) او دم الموتى او دم الحبيب او الغريم، وسنكتفي من كل ذلك بنموذج واحد شائع حيكت حوله الكثير من المعتقدات هو «دم المغدور».

دم المغدور
يعتبر دم كل شخص فارق الحياة في حادث قتل عنيف دما سحريا يستعمل في وصفات الحاق الاذى بالآخر وتتهم العجائز ـ بشكل خاص ـ باقتناص فرص الارتباك الذي يحصل بعد وقوع حوادث السير المميتة لأخذ عينات من الدم المتناثر على الاسفلت في قطعة ثوب او في اذيال الجلباب.
وحسب افادات بعض المصادر الشفوية فإن هذا الدم السحري، كفيل بإحداث اضطرابات صحية خطيرة للأطفال الرضع الذين لم تظهر اسنانهم بعد، كما يستعمل من قبل المرأة التي تريد الانتقام من زوجها، حيث يؤدي بالرجل الى فقدانه لقواه العقلية وقد سمعنا قولا ردده بائع اعشاب ينادي الزبائن في جوار ضريح ولي: «هنا دواء دم المغدور / ديري ليه دم المغدور / باش تحمقيه وتخليه ادور» وهو ما يعكس مدى اعتقاد العامة في القدرات العجيبة لهذا الدم اما بالنسبة للطفل الرضيع فإن ربات البيوت يحرصن على ابقاء اطفالهن الرضع بعيدا عن النساء اللواتي لا يثقن في نواياهن, وحسب ما هو شائع فإن مجرد دخول شخص يحمل وسط ملابسه دم المغدور يكون كافيا لإصابة الرضيع باضطرابات صحية قد ينجم عنها عدم التئام عظام جمجمته.
وان الشيء يحدث الاثر كما يحدث نقيضه وبحسب الظروف فإن دما آخر تمنحه معتقداتنا خصائص 3 سحرية مباركة يبطل المفعول المؤذي لدم المغدور وهو دم اضحية العيد ومن بين الوصفات المعروفة في هذا الصدد نذكر:
1ـ عندما يبلغ الرضيع اربعين يوما نقص خصلة من شعر قفاه، يضاف اليها قليل من الكبريت ودم اضحية العيد (المجفف) ثم تخفى في حجاب يعلق في عنق الطفل.
2ـ يؤخذ دم اضحية العيد مع الزعفران الحر والقرنفل والسانوج وتمزج هذه المواد مع الزيت وحليب الام ليدهن بها رأس الرضيع.
3ـ يمزج دم الاضحية مع (مريوت) فراسيون والروضة وزيت الزيتون ويدهن رأس الرضيع بهذا الخليط، ولا يقتصر استعمال دم اضحية العيد على الوقاية من الآثار السحرية المؤذية لدم المغدور على الرضع، بل ان المجتمعات المسلمة في دول المغرب العربي تستعمل دم الضحية طريا لعلاج بعض الامراض العارضة التي تصيب الكبار ايضا كما تقوم ربات البيوت بأخذكمية من ذلك الدم لتجفيفها والاحتفاظ بها للتبخر (لطرد الجن) كما يدق الدم المجفف ويخلط مع الحناء لعلاج بعض الامراض النسائية خصوصا منها تلك التي تصيب الثدي.4ـ والحقيقة ان دماء الحيوانات تستعمل على نطاق واسع في اعمال السحر، الداجنة منها او المتوحشة وتشمل لائحتها خليطا عجيبا من كل الاحجام والاصناف، يمتد من البقة الى الثور.

قرابين الدم
يعني القربان في اللغة ما يتقرب به الى القوى العلوية من ذبيحة وغيرها وقد تكون هذه القوى آلة او غيرها من القوى فوق الطبيعة جن، اولياء ارواح واذا كانت لكل قربان دلالته وقيمته الرمزية فإن اكثر انواع القرابين قيمة هي الذبائح التي تراق دماؤها خلال طقوس دينية او سحرية.

وتختلف طبيعة القرابين باختلاف المناسبات والجهة التي تقدم اليها والشائع في معتقداتنا ان الجن يفضل المواد الغذائية (فول، حليب، كسكس باللحم ومن دون ملح، الخ,,,) ومن الذبائح التي تحظى بالافضلية لديه، ذبائح الدجاج والماعز الاسود، وتقتضي طقوس تقديمها ان ينحر طائر الدجاج الابيض (او الاسود او الأحمر حسب المناطق والمناسبات) في الاماكن التي يعتقد في تواجد الدم بها خصوصا مجاري الوادي الحار ثم يترك دم الذبيحة يسيل وينثر بعد ذلك ريشها وامعاؤها كي «يلتهمها الجن» مع منع الكلاب من تلك الوليمة الغريبة.

وحسب بعض الاشارات التاريخية فإن بعض الانهار المغربية كانت تشهد اراقة دماء الذبائح بهدف التقرب والتودد الى الجن الذي يعتقد السكان في وجودهم في مياهها كما كانوا يريقون دماء الطيور في المغارات والآبار وغيرها من الاماكن المعتقد في وجود الجن فيها لكن القرابين المقدمة للأولياء المنتشرين بكثرة في المغرب تظل الاكثر انتشارا وعلانية, وحسب الملاحظة، يمكن تصنيف هذه القرابين الى صنفين رئيسيين، من جهة نجد القرابين العادية التي تتوافد مع الزوار بشكل يومي حسب اهمية ودرجة شهرة الولي.

وتتمثل في الشموع والعكيات المالية التي تقدم لدفين الضريح ، من خلال اقرب الناس اليه، اي المشرفين على ضريحه، ويستمد هذا النوع من القرابين ضرورته، وفق الاعراف القائمة، من كونه يعتبر وسيلة تواصل تسمح بربط وشائج علاقة روحية بين المريد وصاحب «المقام» إذ لا تجوز في عرف العامة زيارة الاولياء بأياد فارغة؟ وهناك من جهة ثانية، قرابين الدم التي تعتبر اكثر اهمية، نظرا لقيمتها الاقتصادية والرمزية «إراقة الدم» والتي تقدم للأولياء بشكل مناسباتي او سنوي, وهذه هي التي سنتوسع هنا في البحث في دلالاتها.

ان ظاهرة تقديم الذبائح للأولياء قديمة جدا في المغرب, وتجد أصولها في الحفلات الزراعية التي كان يقيمها أجدادنا تتويجا للمواسم الفلاحية، حيث كانت القبيلة تجتمع حول وليها، في احتفال سنوي «موسم» يخرجها من إطار الروتين اليومي وتشكل المناسبة فرصة لنحر الأضاحي على شرف الولي/ الاب الروحي للقبيلة، ومن لحومها تهيىء النسوة ولائم جماعية تؤجج حس الانتماء الجماعي الى القبيلة الواحدة.

لقد كانت للقربان حينها، وظائف اجتماعية وروحية لكن ضاعت الكثير من ملامح تلك الحياة الجماعية الأولى، و أصبحت القرابين التي تنحر اليوم على أعتاب الأولياء فردية, وبشكل عام، يمكن التمييز بين أربعة انواع رئيسية من قرابين الدم التي تقدم للأولياء: هناك اولا، القرابين التي تنحر من اجل التقرب الى ولي وهذه العادة الشائعة، لا علاقة للمستوى التعليمي او الاجتماعي بانتشارها، بدليل ان بعضاً من الاطر السامية في اسلاك السلطة الترابية اشتهروا بإتيانها علانية, فبمجرد تعيين عمال الاقاليم، يهب بعضهم الى زيارة الأولياء الاكثر في أقاليمهم «تحت أضواء الكاميرات او في زيارات خاصة».
يحملون إليهم هبات مالية مقدموها من الولي إبعاد الشر عنهم «التطهر من العكس، طلب الشفاء، صرع الجن,,,» ثم هناك قرابين الدم التي يطلب اصحابها من القوى المقدسة الخفية، إنجاح او صفقة «نجاح في الاعمال، تيسر الزواج، إلخ»
واخيرا، هناك القرابين المقدمة استيفاء لنذر سبق للمعنى ان قطعه على نفسه، ففي حالات معينة، يقطع الزائر «او الزائرة» على نفسه عهدا بأن يحمل الى الولي ذبيحة في حال ما إذا تحقق مراده, وحين يقضي الغرض، يصبح على كاهل صاحب النذر دين ينبغي عليه ان يؤديه، وإلا انقطعت عنه بركة الولي.

ان المطلوب من الولي، في الحالات كلها، في المقابل قربان الدم المقدم إليه، هو بركته: البركة التي تطرد الشر المسلط من الآخر، والبركة التي توفر الحماية من العين، والبركة التي تيسر سبيل النجاح، وتقضي الاغراض كلها وتضمن استمراريتها.

كيف يحصل الاتصال مع القوى العلوية، من خلال قربان الدم؟
يرى إدموند دوبيه، وهو أبرز الدارسين للظواهر السحرية في المجتمعات المغاربية، فإنه لكي يكون القربان مكتملا «اي مستوفيا لشروط القبول» يكفي المضحي وهو ينحر الاضحية ان يدعو التأثير الخلاصي للقوى فوق الطبيعية، كي يحل «التأثير» في لحم الاضحية التي سيتناولها فيما بعد، مع الاكل, ويضيف «دويته» ان ذلك يحصل عندما يتم نحر القربان في جوار الولي, ان سيلان الدم على الاعتاب المقدسة للولي هو شرط واجب لطرد التأثيرات الشريرة من المضحي، بواسطة الذبيحة، ويستنتج إدموند دويته انه لكي يتم طرد الشر بشكل فعال من طرف صاحب القربان، ولكي توضع في اتصال جيد مع العلوي، ينبغي ان يسيل الدم بغزارة.

وقد كانت تقام حول بعض الاضرحة الشهيرة مجازر حقيقية للحيوانات، خلال فترات «المواسم» السنوية وكانت الاسرة ترعى قربان «الولي» طيلة اشهر، او طيلة السنة، حتى السنة اذا حل الموعد السنوي المنتظر، حملته الى وليها لتسييل دمائه على جنباته المقدسة
وقد عثرنا في دراسة قديمة كتبها الباحث الفرنسي «لاوست» علي اشارة عامرة حول غزارة الدم الذي كان يفيض على جنبات احد الاضرحة الشهيرة في المغرب إذ حسب لاوست خلال الموسم السنوي لمولاي إبراهيم «80 كيلومتراً عن مراكش» الذي يقام بعد عيد المولد النبوي بايام، كانت تقام مجزرة حقيقية للديكة البيضاء «الدجاج البلدي، طبعا» الى درجة ان دماءها كانت تسيل غزيرة في عدران، على عتبة «الزاوية».

قربان النار
بالنسبة الى عالمي الاجتماع الفرنسيين اوبير وموس فان القربان هو «وسيلة للدخول في اتصال مع الالوهية، من خلال كائن حي يتم تدميره خلال الحفل ويكون هذا التدمير اما بالذبح كما رأينا، كما قد يكون بالاحراق، وقد عرفت الحضارات البرشية منذ القدم عادات تقديم القرابين البشرية والحيوانية لكننا لم نعثر على ما يفيد بوجود ظاهرة تقديم القرابين البشرية في المغرب خلال اي عصر، بينما كانت قرابين النار من الحيوانات شائعة على نحو علني وجماعي، خلال بعض المناسبات المغربية ولا نعلم ان كانت تمارس حتى اللحظة الراهنة في بعض المناطق ولعلنا نجد في الطقوس السحرية التي تتضمن التبخر ببعض الحيوانات الصغيرة بعد رميها حية في لهيب المجاهر، كالحرابي ـ حمع حرباء والعقارب وغيرها,,, والتي مازالت تمارس على نطاق واسع اشكالا متأخرة لكن فردية وخفية، لقرابين النار التي كانت في السابق جماعية وعلنية، وانقرضت من مجتمعنا.
لقد ارتبطت قرابين النار في بلادنا ببعض المناسبات التي يتم خلالها إشعال نيران المباهج، مثل عاشوراء والعنصرة ومن امثلة قرابين النار، التي ذكرها لاوست، في عاشوراء ان قبائل جباله في الشمال العربي كانت ترمي جثة قط متوحش «مش الغابة» في «شعالة» عاشوراء اما قبائل بني مكيلد «بالمغرب الشرقي» فكان افرادها الرحل يحرقون دجاجة بيضاء خلال نفس المناسبة ويقول «وسترمارك» انهم كانوا يحرقون ديكا ابيض في خيامهم وان ذلك الطقس، كان هو كل احتفالهم بالمناسبة الدينية اما في مدينة سلا، فإن الناس كانوا يحرقون طائر البو في نيران عاشوراء بينما في تزوالت «سوس» كانوا يرمون للنيران بعض الاسماك.
وفي تفسير هذه العادات الغريبة لم يكتب الكثير لكن حسب «وسترمارك» فان الدخان المنبعث من جثث الحيوانات يطهر ـ في اعتقاد الناس ـ من التأثيرات الشريرة، وينقل البركة، ولذلك يعتبرون قرابين النار مفيدة للزراعة ولقطعانهم, أما عالم الاجتماع الفنلندي «منهاردت» فيستنتج من دراسته للظاهرة ان لذلك الدخان خصائص سحرية.
ولعل من اغرب قرابين النار التي عرفها المغاربة، قربان الحلزون الذي كانت تقدمه بعض قبائل الاطلس الكبير لنيران عاشوراء فحسب «لاوست»، دائما كانت قبائل ايت إيسافن تبدأ احتفالاتها بالمناسبة الدينية بذبح بقرة على عتبة المسجد، ويحمل دمها ليراق في المكان المخصص لنصب الموقد المقدس «الشعالة» وفي اليوم التالي، تذهب الفتيات لجمع الحطب اللازم في الغابة، بينما ينصرف الفتيان من جهتهم ، لالتقاط الحلزون الذي سيحتفظون به الى غاية اليوم الاخير من احتفالاتهم.
وعندما تخبو النيران في الليلة الاخيرة، وتوشك ان تنطفىء يتقدم فتيان القبيلة نحوها، ليرمي فيها كل واحد منهم حفنة من الحلزون، وهم يرددون باللهجة المحلية : «مونات دلباس نون» اي انهم يحملون الحلزون كل شرور سنتهم القادمة، ليدمروها في النار، ويتخلصوا منها حتى عاشوراء الموالية.

0 التعليقات:

إرسال تعليق