المعلومة
طرق التجنيد تختلف من جماعة إلى أخرى, لكن يبقى العامل الأساسي في هذه التجربة هو نقص المعلومة لدى الفرد أو امتلاكه في الأساس لمعلومات مغلوطة من مجتمعه, حيث تساعد كل الأكاذيب التي تحشى بها أدمغة الأفراد من أنظمتها عن تاريخهم أولا ثم عن الآخرين وعن حقيقة دينهم -الذي صار علماءها يتماشون مع أمزجة حكامها فيحرمون ما يتماشى مع مصالحهم ويخفون أو يتجاهلون منه ما يمكن أن يسلبهم بعض امتيازاتهم- من استغلال ذلك الخلل الذي يتولد لديه حين تتناقض تلك الحقائق مع الواقع الذي يعيشه ثم تنطبق مع ما يتلقاه كمعلومات جديدة تكشفها له تلك الجماعات, أو يتماشى مع أيديولوجيتها. فينموا لديه اعتقاد قوي في أن كل ما تقوله تلك الجماعة هو الحقيقية الوحيدة التي صار يملكها ويتميز بها عن الآخرين.
فتتولد لديه مشاعر متطرفة وعدائية ضد كل معلومة جديدة تأتي من خارج الجماعة التي انتمى إليها وتصير هذه الأخيرة المصدر الوحيد المعتمد لمعلوماته وبناء قناعته الجديدة, ويرى في كل محاولة لاحقا من مجتمعه لإرجاعه لجادة الصواب نوع من المراوغة ووسيلة لطمس ما يعرفه حسب قناعته الجديدة, حتى لا يتسرب إلى الآخرين الذين يجهلون الحقيقة التي يمتلكها كواحد من قلة مختارة !!
فإلى الآن ورغم تطور الفكر الإنساني الجماعي إلى حدود تجعله يستوعب المعتقدات بدون إسقاطات لا تزال المؤسسات الدينية تخشى الخروج من القالب البدائي لتوصيل المعلومة الدينية.
الفراغات الدينية
فعلى سبيل المثال كان إرث الكنيسة الثقيل لممارسة الباباوات قبل عصر الثورات في أوروبا, منطلقا للعديد من المفكرين في عصر النهضة ليؤسسوا عليه مبدأ العقل والعلم طريقا للمعرفة, مما جعل تلك المعرفة مفصولة عن الهوية الدينية وبالتالي صار ينظر إلى الشخص المتدين على أنه شخصية تقليدية وغير تقدمية, ومحدودة الأفق وكان معظم أولئك المفكرين أعضاء في جماعة سرية تسمى حاليا بمنظمة الماسونية.
ومن جانب آخر, تلك الوصاية الدينية التي يتناقض سلوك قادتها مع أقوالهم ومفهوم العدل السماوي, أفسح المجال للعديد من الجمعيات السرية أن تطفوا على السطح بشكل علني وتحت مسميات فلسفية, كالسمو بالنفس والذات وتمجيد الأخلاق وحق الحرية في الاعتقاد مستندين على المفاهيم الفلسفية لمفكرين عصر النهضة, فصارت تلك الجمعيات ملاذا لكل من أراد الجمع مابين الشخصية التقدمية العلمانية والرغبة الفطرية الكامنة بداخله في ممارسته لدين ما أيا كان شكل ذلك الدين.
أما الإسلام فانقسم بين شذود السياسة وفكرة المجتمع الديني الإسلامي, ففي القرن الأول هجري, كان الإسلام شريعة جديدة تتضمن رسالته تعاليم إصلاحية للمعتقد اليهودي والمسيحي وغربلتهما من الأفكار الوثنية, وتقديم الشريعة الثالثة كمكملة للدين السماوي وليس لاغيا لتلك الشرائع, فكانت المجتمعات الإسلامية الأولى تعتبر اليهود والمسيحيين والصابئة كأشقاء دين واحد تختلف فيه الشريعة والمنهاج.
إلا أن هذه الرؤية الدينية للشرائع الأخرى نسفت معالمها أطماع السياسة والدول التوسعية, وبرزت أكثر مع الخلافة العثمانية التي كان لها تفسير آخر للموضوع بعد عهد محمد الفاتح, ودخول المجتمعات العربية تحث نفوذها, فلم يترك العلماء الأتراك مجالا للعرب في الظهور رغم أن القرآن والسنة كانا بالعربية وكانت لغة الدولة العثمانية هي التركية, فصار الجهل والسوط وسيلة الولاة العثمانيين في السيطرة على الشعوب العربية حتى تضمن عدم تمردها, وكانت ترى في كل من لا يدين بالإسلام كافرا كما كان الحال مع الكنيسة التي كانت ترى في الأتراك كفرة أيضا حتى يضمن الطرفين محفزا شرعيا لتوجيه الضربات العسكرية الواحدة تلو الأخرى في الصراع القائم أنداك للسيطرة على الطرق التجارية والأسواق العالمية.
فكان الاتهام بالهرطقة يلقى ضد كل من تسول له نفسه إعمال العقل ورفض الوضع القائم, وساهم تحول مسار القوافل التجارية باكتشاف رأس الرجاء الصالح في اختفاء المعلومة حيث انقطعت الخيوط التي كانت تربط المجتمع العربي بالمعرفة والانفتاح والتجديد, فكرس هذا المفاهيم العثمانية ونشأ نوع من الطبقية في المجتمعات العربية حيث كان ينظر إلى العرب كفئة اجتماعية من الطبقة الثانية لا تصلح إلا للإنتاج وإرسال محاصيلها وضرائبها إلى الأناضول, وولد داخل المجتمع العربي مفهوم جديد للقومية والذات فصارت الانتماء القومي والقبلي فوق الانتماء الجماعي الذي أوجده الدين الإسلامي في تحديد مفهوم الأفضل في الأحسن خلقا و الأكثر فعالية ومعرفة داخل المجتمع.
وبعد تحرر الشعوب العربية حافظت المدارس الدينية على ذلك الأسلوب في رفض كل ما يخرج عن ما بقي من إرث المخطوطات التي كانت تختفي لقلة الكتبة وعوامل الزمن التي أفسدتها, للعلماء الأمويون و العباسيون والأندلسيون, دون التفكير للحظة أن تلك المخطوطات نشأت لمجتمعات كانت فيها أولويات تستدعي الاجتهاد والقياس والبحث.
فصار الدين يقاس بمسائل القرون الأولى للهجرة. وأي تطور دون قياسه من الجانب الديني يرفض من قبل التيارات الدينية وينظر إليه على أنه بدعة ستسوق المجتمع إلى نار جهنم مع أن تلك المدارس لم تقم مجهودا في القضاء على الآثار الفكرية للديانات الوثنية المتمثلة في أتباع الأضرحة, ودجل بعض الفقهاء تحت قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, بل اعتبروا من أصحاب الكرامات, ولا غربلت الحياة العربية مما خلفه الاستعمار من عادات حسبت على أنها دينية, بل على العكس أخذوا يرددون التفسيرات العثمانية التي استمدت منها الوهابية منهجها وأسلوبها ليبقى الوضع على ما هو عليه.
وغير بعيد نشأت دولة يهودية, حاولت مؤسستها الدينية طوال الوقت ربط وجودها بقدر إلهي ومصير يتعدى وجودها ليشمل العالم أجمع, فوجودها كواقع مرتبط بإيمان العالم وعودة المسيح وبناء الهيكل.. وصارت كل جرائمها تربط بالوعد المقدس.
وبعيدا عن ذلك الصراع الإيديولوجي بين الديانات الثلاثة, نشأ صراع آخر في الجزء الثاني من القرن العشرين بين علماء الدين المفكرين والذين سعوا إلى ربط الدين بمسائل الحياة المعاصرة وبين ما يسمى بالعلماء المحافظين.
فالجرأة في طرح مسائلهم وتحمل تبعاتها, وكذلك ردات فعل المستفيدين من تسييسهم للدين, لم يكن بالشيء السهل أمام مجتمع مشرقي يرى البحث في العلوم الدينية خطا أحمر ومجتمع غربي يسعى إلى إنهاء أي علاقة للدين بحياته المعاصرة, ودولة يهودية قامت كواقع على أساطير دينية.
فلا يمكن تهميش التنشئة في بلورة و تأطير فكر الفرد في اتجاه واحد ربما يكون الاتجاه الخاطئ للوصول للمعرفة, وتسهم هذه التنشئة في زعزعة موضوعيته العلمية ورفضه لكل ما يختلف عنه بسبب تلك الراديكالية التي اكتسبها من ثقافة مجتمعه, فتكون بذلك الأرضية المناسبة للعنف ورفض الآخر لأننا ساعدنا كمجتمع في خلق شكل العدو في كل ما هو مختلف عنا وعودناه رفض الآخر وإتباع الحوار المدمر ضد كل ما لا يشبهه.
البيئة الاجتماعية
وتأتي في الدرجة الثانية للتجنيد نوع البيئة التي نشأ فيها, و ما شكلت بداخله من فراغات أو ندوب, فمن الخطأ اعتقاد أن المنضمين إلى الجماعات الدينية هم فقط من الفقراء, فهناك أشخاص من أسر فقيرة استطاعوا أن يصلوا إلى قمم المجد بمجهوداتهم الشخصية وبفضل التنشئة الجيدة داخل الأسرة وقدرتهم على تقبل قلة إمكانيات أسرهم برضي وجعلوا منها وقودهم للوصول إلى أهدافهم بشرف وتبات, وبالمقابل ليس الأغنياء المستهدفين الوحيدين من الجماعات الوثنية فالجهل واليأس والرغبة في الوصول إلى الأهداف بسرعة وعدم الرضا عن الذات والرغبة في التمرد نجدها في كل طبقات المجتمع.
وهذه البيئة (الأسرة والشارع) التي ساهمت في خلق شخصياتنا في مرحلة الطفولة وزودتنا بالمعلومات الأولية عن الحياة والمجتمع, وعرفتنا من خلال وجهة نظرها ما هو الاحترام في عيون الآخرين, ما معنى النجاح والشرف, وما معنى الحياة والموت, وأطرت ما هي حقوقنا وواجباتنا, هي أيضا من تحدد معالم شخصية الفرد خلال فترة المراهقة التي تعتبر مرحلة صراع لإثبات الذات, فتهميشنا لبعض المراهقين بدافع عنصري أو طبقي وسخريتنا من أشكالهم وأعمالهم, أو عدم استيعابنا لأزماتهم, يسهم في الخلق منهم أفرادا برؤية أحادية تنبع من آلام تلك التجارب المراهقة, هذه المرحلة التي يميل فيها المراهق إلى البحث عن الإعجاب في عيون الأخريين وخصوصا في عيون أول حب له, ويكون شديد الحساسية للانتقاد, يحدد من خلال تلك التجارب ما يريده ويطمح إليه, إن كان الإعجاب في عيون الأخريين أو السلطة عليهم ليهابه الجميع ولا يشعر بالقهر من عدم قدرته على رد العنف الذي يستقبله من أحد أمام الأخريين, أو أن يرى الحسد في عيونهم لأنه يملك ما لا يستطيعون امتلاكه كما شعر هو سابقا حين همش ونال نصيبه من الاهتمام من يملك أشياء مميزة.
فلا يجب أن نستغرب حين يقوم أفراد بعمليات إرهابية ونكتشف أنهم خرجوا من أحياء مهمشة, لأن هناك من علم كيفية استغلال أزماتهم الشخصية مع واقعهم ومنحهم ما يرغبون فيه, ومنحهم الاهتمام وأرضى رغبتهم في أن يحصلوا على التقدير والثناء, فكان بتضخيمه لذاتهم يكسب ولائهم و يضمن توجيههم. كما حدث في المغرب مع جماعة سيدي مومن في شهر فبراير 2007 وفي لبنان مع جماعة فتح صيف 2007 .
ولا أن نستغرب حين تنبث جماعة فجأة لتغير الواقع من حولها, بالعنف و الإرهاب وتقتل عشر سياح أجانب , لأنه بالتأكيد هناك من خلق لديه قناعة أن لديه الحق باسم الدين وحق النهي عن المنكر والأمر بالمعروف في التدخل في كل كبيرة وصغيرة من شؤون الآخرين حين لا توافق المعلومات التي لديه عن السلوك الجماعي. وذلك لأن كل من حوله لم يكونوا قادرين على مواجهة تلك السلطة أو الاعتراض عليها, فرأى في تلك السلطة الدينية , الوسيلة الوحيدة في حصوله على حريته واعتباره شخصا بالغا يجب أن يصغى لكلامه باهتمام وعدم تهميشه والاستخفاف به, ورأى في تلك الوسيلة أيضا السلطة المشروعة على الآخرين والتمييز عليهم, إذا كان كل من حوله غير قادرين على القرار أو التفكير خارج ما تحدده تلك السلطة الدينية, فيسهم دور الجلاد الذي اختاره طوعا إلى نمو مشاعر العنف والعدوانية التي لا تستطيع إمكانياته النفسية كمراهق من السيطرة عليها لقلة خبراته وتجاربه في قياس الأمور, ورغبته في الإثبات لمن يحرضه أنه شخص بالغ يستطيع الاعتماد عليه. كما حدث في المملكة السعودية في شهر أكتوبر 2006.
ولا أن نفاجأ حين نجد أن جماعة ترفض الاستسلام والنزول من مواقعها وإنهاء التمرد. فانتهاء الحرب يعني انتهاء حفنة الدولارات التي يستلمها كل مرة والتي ستنتهي معها أحلامه في التمييز عن الآخرين, وبامتلاكه ما يريد من النساء اللواتي يهبن أنفسهن للأبطال منهم والمخدرات والقات التي يستطيع الحصول عليها متى شاء, كما هو الحال مع جماعة الحوثي بمنطقة صعده في اليمن. مند 2002, فاليأس من قله الإمكانيات والفراغ الثقافي وانعدام المراكز الترفيهية يخلق نوعا من الكبت لتلك الطاقة التي تكون في العادة لدى المراهقين, ويمكن اعتبار هؤلاء المراهقين بصدد اللعب ولكن في فترة متأخرة من الطفولة بإمكانيات كانوا يتمنوها في مرحلة الطفولة والمراهقة.
إمكانيات الفرد
في الدرجة الثالثة تأتي مؤهلات الفرد الشخصية, فتكمن أهميته في ما مميزه وما تتطلبه تلك الجماعات في الأشخاص الذين تستهدفهم, فأحيانا تكون قدرات الشخص الذهنية أو مجال تخصصه, أو نوع عمله ما يجعل منه شخصا مستهدفا, وأحيانا إمكانياته البدنية التي تخوله لأن يكون الشخص المطلوب و المتمكن لمهمات خاصة, أو الكريزمة التي يتمتع بها في الإقناع وجدب الانتباه, وأحيانا وضعه الاجتماعي حتى يكون مموها عن الرقابة الأمنية سوءا كان من الفئات الفقيرة التي تكون أحياءها مهمشة من طرف السلطة أو الأوساط ذات الامتيازات التي تكون بعيدة عن أي شك أو مسائلة.
إمكانيات الفرد
في الدرجة الثالثة تأتي مؤهلات الفرد الشخصية, فتكمن أهميته في ما مميزه وما تتطلبه تلك الجماعات في الأشخاص الذين تستهدفهم, فأحيانا تكون قدرات الشخص الذهنية أو مجال تخصصه, أو نوع عمله ما يجعل منه شخصا مستهدفا, وأحيانا إمكانياته البدنية التي تخوله لأن يكون الشخص المطلوب و المتمكن لمهمات خاصة, أو الكريزمة التي يتمتع بها في الإقناع وجدب الانتباه, وأحيانا وضعه الاجتماعي حتى يكون مموها عن الرقابة الأمنية سوءا كان من الفئات الفقيرة التي تكون أحياءها مهمشة من طرف السلطة أو الأوساط ذات الامتيازات التي تكون بعيدة عن أي شك أو مسائلة.
0 التعليقات:
إرسال تعليق